ثقافة وفن

من الحبر والورق إلى عالم الصورة … الرواية تغني الشاشة الصغيرة بما يحقق تماسك الدراما

| مادلين جليس

قدم الأدب السوري على مر تاريخ طويل من الإبداع، روايات وأعمالاً أدبية مميزة تركت بصمةً واضحةً في الأدبين العربي والعالمي على حد سواء. ولئن كانت الرواية عالماً من الكلمات، وفضاءً من حبر وورق، فقد ارتأى بعض المخرجين والمنتجين تحويل هذه الكلمات إلى صور، وشخصيات من لحم ودم تعيش أحداث القصة وترويها أمام المشاهد بطريقة حياتية، تضعه في تفاصيل القصة كاملةً، فيعيش أحداثها جنباً إلى جنب مع أبطالها. ولادة جديدة من رحم الرواية؟ لقد كان نتيجة هذه الرؤية، إنتاج أعمال ضخمة، استطاعت أن تأخذ مكانها في ذهن المشاهد ووجدانه، فكانت مميزة كرواية، وتميزت أكثر كمسلسل، وكان مسلسل «نهاية رجل شجاع» أحد أهم هذه الأعمال، وهو المأخوذ عن رواية للأديب الكبير حنا مينا، حيث استطاع الكاتب والسيناريست حسن م. يوسف بإبداع لا مثيل له إخراج المسلسل من قلب الرواية، أما المخرج نجدة أنزور فقد قدمه في مشاهد كانت صورة طبق الأصل عن الحياة في البيئة الساحلية كولادة جديدة للمسلسل من رحم الرواية.

وهناك أيضاً مسلسل «جريمة في الذاكرة» الذي بقي حقاً في الذاكرة، حيث أعد له السيناريو الكاتب الراحل ممدوح عدوان وأخرجه مأمون البني، الذي جعل المشاهد السوري يعيش أحداث رواية «أجاتا كريستي» «الجريمة النائمة» بطريقة بوليسية مميزة. أما رواية «ذاكرة الجسد» للكاتبة أحلام مستغانمي، فقد انتشرت بشكل كبير وذاع صيتها في أنحاء الوطن العربي، قبل أن تقوم الكاتبة ريم حنا والمخرج نجدة أنزور بتقديمها في ثوب درامي لا يقل أهميةً عن أسلوب مستغانمي الروائي الذي شد القراء بروعته ومشهديته العالية.
رواية «المصابيح الزرق» للأديب الكبير حنا مينا كان لها أيضاً طريق للشاشة الصغيرة، حين تناولها السيناريست محمود عبد الكريم، والمخرج فهد ميري، في مشاهد كانت أقرب إلى الحقيقة، وصور تحاكي بإبداع خلاق الصور التي أرادها حنا مينا أن تصل من خلال كلمات خطها على الورق.
والحديث يطول عن أعمال درامية خرجت من رحم روايات وأعمال أدبية، واستطاعت أن تترك بصمةً في وعي الجمهور والمشاهد السوري، وهنا لا بد من طرح بعض الأسئلة المهمة: هل شهرة الرواية وشهرة كاتبها هما السبب وراء اندفاع المخرجين وكتاب السيناريو إلى صناعتها فناً درامياً مرئياً، وما الذي يعطي شهرة للآخر، الرواية للمسلسل، أم العكس؟
الرواية فن انتقائي المخرج فهد ميري يتحدث عن تجربته في إخراج مسلسل «المصابيح الزرق» بالقول: لا يمكن أن نقول إن شهرة الرواية هي السبب وراء تحويلها إلى فيلم أو مسلسل تلفزيوني، هناك شيء مختلف تماماً، عندما نحول الرواية إلى عمل تلفزيوني، فإننا نتوسع بها، أي إن هذه الرواية لا تزيد على مئة وخمسين أو مئتي صفحة، أما المسلسل التلفزيوني فيزيد على ألف صفحة، ولذلك يمكننا القول إن الرواية موجودة في المسلسل وليس المسلسل موجوداً في الرواية، الرواية حالة فنية مختزلة، أما المسلسل فهو توسع، وأنا لا أتحدث هنا عن فيلم سينمائي، فلو تحدثنا عن فيلم فهنا أيضاً سنقول إنه اختزال، السينما تقريباً مشابهة للرواية، من ناحية فن الاختزال، الموجود فيهما على حد سواء، الرواية فن انتقائي يتوجه إليه القارئ من تلقاء ذاته، ويختار منه ما يرغب فيه، بعكس التلفزيون الذي يُفرض على المشاهد.
أما مسلسل «المصابيح الزرق»، الذي تم إخراجه عام 2012، ففي هذا العمل الرواية الأساسية موجودة في المسلسل، ولكن أضيف للمسلسل الكثير من ذاكرة هذه الرواية، من الذاكرة الشعبية لتلك الفترة الزمنية التي تناولتها الرواية، من عام 1939م إلى عام 1945م، أو 1947م، أيضاً تم تناول أشياء من الذاكرة الشعبية لتلك المنطقة، ولتلك العوالم، بما لا يؤثر ولا يخدش روح الرواية، إذاً المسلسل أتى ليتم ويكون متكاملاً مع شخوص الرواية، وأحداثها، ومع العوالم الموجودة فيها، وأيضاً ذاكرة المنطقة في الأساس، أي المنطقة الساحلية التي جرت فيها أحداث الرواية.
عندما نتناول رواية، منتشرة ولها جمهورها، نكون بذلك أمام تحد كبير، وهنا على الشركة المنتجة والمخرج أن يقدما المسلسل التلفزيوني بطريقة مبدعة وخلاقة، فلا يكون العمل أضعف من الرواية، كي لا يحصل إساءة للرواية والعمل على حد سواء، وهذا هو التحدي الذي وضعنا فيه حين عملنا على مسلسل «المصابيح الزرق»، ولكن من خلال آراء الناس ونسبة المشاهدة فإن العمل كان على قدر هذا التحدي وحقق الشهرة المطلوبة منه، أي إنه أعطى أبعاداً أخرى للرواية عن طريق الشاشة الصغيرة، التي أيضاً أعطتها شهرة وانتشاراً أوسع، لأن الرواية أقل انتشاراً من الشاشة التلفزيونية التي تدخل كل مكان وكل بيت. امتحان حقيقي لصناع الدراما أما الكاتب والناقد الدرامي عمر محمد جمعة فيرى في إنجاز الرواية مسلسلاً درامياً تحدياً للعاملين في مجال الدراما فيقول: قبل كل شيء دعونا نتفق أن المسلسلات والأعمال الدرامية المختلفة -سواء كانت مشهورة أم غير ذلك- التي اتكأت في إنتاجها على المنجز الروائي، كانت في أغلبها الأعم من أنجح الأعمال وأكثرها خلوداً، ما يستدعي أن يلتفت مخرجونا اليوم إلى الكثير من الروايات السورية التي تستحق فعلاً أن يراها جمهورنا في مسلسلات محلية سترتقي بالتأكيد بدرامانا وترفع سقف المنافسة مع الدراما العربية بألوانها وأشكالها وموضوعاتها المختلفة.
فقد كانت الرواية السورية على الدوام من حيث موضوعاتها وبناؤها الفني ومكوناتها السردية والمكانية والزمانية، إضافة إلى الشخصيات التي قدمتها، في طليعة الروايات العربية، التي اكتسبت خلوداً ومعرفة ومشاهدة أكثر بعد تحويلها إلى أعمال درامية، هذه الرواية التي لم تبدأ برواية «اللـه والفقر» لصدقي إسماعيل التي تحولت إلى «أسعد الوراق»، مروراً برواية فارس زرزور «وعاد بخفي حنين» التي تحولت إلى «السنوات العجاف»، وروايتي خيري الذهبي «البسطاء» و«حسيبة» ورواية ألفة الإدلبي «دمشق يا بسمة الحزن»، ولن تنتهي بروايات حنا مينا «نهاية رجل شجاع» و«الشمس في يوم غائم» و«الشراع والعاصفة» و«المصابيح الزرق» وسواها.
فقد شكلت الرواية امتحاناً حقيقياً لمقدرة العاملين في الحقل الدرامي، وبات التحدي أكبر لكلا الطرفين (الكاتب الأصلي- وكاتب السيناريو) إذا علمنا أنها قوبلت بتلقٍ عالٍ كعمل مقروء، وغدت بميزان المشاهدة البصرية أكثر قبولاً وتلقياً.
وبمراجعة بسيطة سنكتشف أن السيناريست المستند في كتابته إلى إرث إبداعي قصصي وروائي خلاق، سيترك بصمة تميزه عن باقي كتاب السيناريو، فالكاتب والسيناريست المصري الراحل أسامة أنور عكاشة الذي ألف مسلسلات: الراية البيضا، وقال البحر، وعصفور النار، وضمير أبلة حكمت، وليالي الحلمية، وأرابيسك، وزيزينيا.. وغيرها، له مجموعات قصصية منها (خارج الدنيا، مقاطع من أغنية قديمة) وروايات أهمها (أحلام في برج بابل، ومنخفض الهند الموسمي، وهمس البحر، وتباريح خريفية، ووهج الصيف)، على حين الكاتب الراحل عبد النبي حجازي الذي كتب مسلسلي «الهراس» و«هجرة القلوب إلى القلوب» له في الرواية (قارب الزمن الثقيل، السنديانة، الياقوتي، الصخرة، حصار الألسن، المتألق، صوت الليل يمتد بعيداً، زهر الرمان)، وأن حسن. م. يوسف قبل أن يكون كاتباً درامياً هو قاص وصحفي كتب في القصة (العريف غضبان، وقيامة عبد القهار عبد السميع، والآنسة صبحة، وعبثاً تؤجل قلبك، وأب مستعار)، وفادي قوشقجي الذي قدم «على طول الأيام» و«فجر آخر» و«ليس سراباً» و«عن الخوف والعزلة» وسواها، له في الرواية (خريف الأحلام، وأطياف الشمس).
إذاً.. فإن أي عمل روائي يتحول إلى مسلسل هو إضافة حقيقية وممتازة إلى المكتبة الدرامية، وستكون الرواية المقصودة هنا أكثر خلوداً لو أحسنا توظيفها، وتم إنتاجها بما يليق بها من إمكانات فنية وإخراجية، كما يرى جمعة. ثراء وغنى للدراما ختاماً يمكن القول: إن الرواية شكلت مادةً غنيةً وثريةً للمخرجين، أثارت شهيتهم، ودفعتهم إلى إنتاجها في مسلسل تلفزيوني حقق نجاحاً لا يحققه المسلسل العادي، وكانت مجالاً خصباً لإبداعهم في حقل الدراما، فأفادوا منها، وأضافوا إليها، في تكامل شهد الجمهور السوري بروعته وانسجامه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن