التحولات السريعة في السياسة التركية.. لماذا؟
| د. بسام أبو عبد الله
التحولات السريعة التي تشهدها السياسة الخارجية التركية جعلت الكثير من المراقبين يتساءلون عن السر وراء السرعة الكبيرة في هذا الانقلاب الحاصل، إذ بعد الإعلان عن الاتفاق التركي- الإسرائيلي أنه أصبح جاهزاً، وقبل إطلاق ذلك رسمياً من رئيس الوزراء التركي (بن علي يلدريم)، فوجئت الأوساط الدبلوماسية في أنقرة، والمنطقة بالأنباء التي صدرت من موسكو في الساعة الرابعة من بعد ظهر يوم 27/6/2016، من أن الرئيس التركي أردوغان قد أرسل رسالة الاعتذار المطلوبة منه عن إسقاط الطائرة الحربية الروسية، وتقديم تعازيه القلبية لأسر الطيارين، وقبول تركيا بدفع التعويضات المطلوبة روسياً كشرط أولي للنظر في تطبيع العلاقات بين البلدين التي تدهورت بشكل كبير بعد إسقاط الطائرة الروسية في الأجواء السورية بتاريخ 24/11/2015 تلا ذلك الاتصال الهاتفي بين بوتين وأردوغان أمس الأربعاء.
بغض النظر عن محاولة الناطق بلسان أردوغان- إبراهيم كالين- التخفيف من وقع الصدمة بعد الإعلان عن رسالة الاعتذار، بقوله إن أردوغان عبر عن (أسفه العميق)، لكن مضمون الرسالة من الواضح أنه أرضى فلاديمير بوتين الذي أعلن الناطق باسمه (بيسكوف) أن أردوغان أرسل لبوتين رسالة اعتذار، واعتبر أن تطبيع العلاقات بين البلدين لا يمكن أن يتم خلال بضعة أيام، كما أن رئيس لجنة العلاقات الدولية في مجلس الدوما الروسي كان قد أعلن (أن العلاقات بين روسيا، وتركيا لن تعود إلى سابق عهدها أبداً)..
الصحفي التركي (مراد يتكين) كشف في مقال له في حرييت ديلي نيوز بتاريخ 29/6/2016، ونقلاً عن مصادر دبلوماسية مطلعة أن الرئيس أردوغان أشرف شخصياً على المراحل الأخيرة من التطبيع، وكسر الجليد مع روسيا، وحسب مصادر الصحيفة فإن رجال أعمال أتراكاً ذوي نفوذ في روسيا سعوا خلال الأشهر الماضية لإصلاح العلاقات، وأن جهود رجل أعمال معروف يتمتع بعلاقات نافذة في موسكو لعبت دوراً مفتاحياً حيث حصل على ضوء أخضر من أردوغان للبدء بالعمل الذي انطلق في بداية أيار الماضي، من خلال عدة زيارات لأنقرة، وموسكو ليدخل لاحقاً أردوغان عدداً من أعضاء فريقه الدبلوماسي للمساعدة، ولم تستبعد الصحيفة التركية حسب تقارير أخرى أن جهازي المخابرات الروسي، والتركي (Mit وFSB) لعبا دوراً في التقارب.
نتائج كسر الجليد هذا ستظهر في أول لقاء رفيع بين البلدين عبر اجتماع وزيري الخارجية في سوتشي في 1/7/2016 على هامش منتدى التعاون الاقتصادي لدول البحر الأسود، وسيلي ذلك خطوات أخرى لاحقة، كما أن الاتصال الهاتفي بين الرئيسين يوم أمس 29/6/2016 سيحدد ما سيأتي.
واضح تماماً أن صراخ عض الأصابع بدأ يُسمع من أنقرة، ويصل إلى جدران الكرملين، طالباً إيجاد المخارج مهما كلف الثمن، ويبدو واضحاً أن دبلوماسية رجال الأعمال الأتراك السرية لعبت دوراً في دفع أردوغان على القبول بالشروط الروسية، في ضوء الأرقام الكارثية للسياحة التركية بعد المقاطعة الروسية واضطراب الوضع الأمني داخل تركيا نفسها نتيجة السياسات الخارجية الحمقاء لحكومة العدالة، والتنمية إذ انخفض عدد القادمين الأجانب إلى تركيا بنسبة 34.7% خلال أيار 2016، مقارنة مع الشهر نفسه من العام الماضي، وهو أسرع انخفاض يحصل في تركيا منذ تسعينيات القرن الماضي.
أما بالنسبة للسياح الروس فقد بلغ حجم الانخفاض حوالى 92%، والألمان 31.5% وبريطانيا 29.4%، وبشكل عام فإن عدد الأجانب الذين يزورون تركيا انخفض بنسبة 22.9%- أي 8.3 ملايين شخص خلال الأشهر الخمسة الأولى من هذا العام 2016، وهذا كلف صناعة السياحة التركية خسائر قد تصل إلى أكثر من 15 مليار دولار.
إذا أضفنا إلى الخسائر الكارثية لقطاع السياحة التركي، الخسائر الأخرى في قطاعات الإنشاءات، والنسيج، وتصدير الخضر والفواكه، والمشاريع التركية في روسيا فإننا يمكن أن نقول إن كارثة اقتصادية حقيقية حلت بالأتراك نتيجة سياسة حكامهم، وسياساتهم الكارثية مع روسيا، ودول المنطقة الأخرى.
هذا لا يعني أن روسيا لم تخسر نتيجة ذلك، ولكن روسيا قد تجد بدائل أخرى، وقد يكون لديها قدرة على التحمل، والصبر، إلا أن تركيا ومواطنيها دفعوا الثمن الأكبر لسياسات حكامهم.
التعليقات في الصحف التركية تناولت بسخرية هذه السياسات التركية التي أوصلت البلاد إلى مرحلة (العزلة الكاملة)، وحولتها إلى دولة محاصرة على الصعيدين الإقليمي، والدولي، وتساءل البعض منهم لماذا العنتريات!!! ألم يطالب بوتين أردوغان بالاعتذار خلال حديث له على شبكة (سي إن إن) بعد إسقاط الطائرة الروسية، وها هو يقدم (اعتذاره لبوتين) بذلّ، ثم ألم يصف إسرائيل بأنها (دولة إرهاب)، وأنها تفوقت على هتلر في البربرية، وها هو يوقع اتفاقاً مع هتلر بظروف لم تغير من الأمر شيئاً، سوى أن (شهداء مرمرة) أصبحوا يساوون 20 مليون دولار، وأن فلسطين ليست سوى قضية للتجارة في بازار الإخوان المسلمين- وهذه الشروط هي أفضل ما تحقق في البازار مع الإسرائيليين!!! هؤلاء ببساطة هم إخوان الشياطين- يبيعون ويشترون بالدين الإسلامي، وهم مستعدون لبيع أي شيء من أجل مصالحهم، فيجب ألا نستغرب ما يحصل؟
لكن السؤال الذي يبقى مستعصياً على الحل: ما هذا الجمهور الذي لا يزال يبرر، ويقبل بكل هذه التناقضات، ويدافع عنها؟
زعيم حزب الحركة القومية التركي (دولت بهشتلي) اعتبر أن عملية الاستغلال، والاستثمار انتهت، ولهذا ذهب أردوغان للتوقيع مع إسرائيل، ووقع مع روسيا.
أما زعيم حزب الشعب الجمهوري- كمال كيليتشدار أوغلو- فقد قال: (انظروا إلى سياستهم الخارجية: في البداية يجب أن تزأر كالأسد، ثم يجب أن تموء كالقطة عندما لا تتجرأ على فعل شيء ما!!)، وخاطب أردوغان بالقول: (تستطيع أن تموء كالقطط، لكن هذا سوف يلقي بظلاله على الجمهورية التركية بأكملها).
إذاً، هل هي (سياسة مواء القطط) الآن- التي يتبعها أردوغان بعد أن تبين له أنه لم يُخف أحداً لأن الأسود الحقيقيين موجودون في دمشق التي لم يُخفها صراخه قبل خمس سنوات، ولا وعيده ولا تهديداته، لأنها كانت تعرف تماماً أنه سيعود لصوته، وحجمه الحقيقي، ويبدأ بـ(مواء القطط) عندما يصل إلى الخطة الحقيقية.
أحد الصحفيين الأتراك كان أكثر ظرافة في تشبيه حال السياسة الخارجية التركية (وهو يوسف قانللي- في حرييت- 29/6/2016) إذ يروي قصة (جحا) الذي ذهب مع صديقه برحلة، وكان لدى صديقه حمار للركوب وبعد فترة من المسير شعر (جحا) بالتعب، فطلب من صديقه أن يدعه يركب الحمار لفترة من الزمن، لكن صديقه أخبره أن عليه أن يأكل حفنة من القاذورات إذا أراد منه أن يوافقه على المبادلة، فقام (جحا) بفعل ذلك، وتبادلا الأماكن، وبعد فترة شعر صديقه بالتعب فطلب من (جحا) أن ينزل عن الحمار ليركبه مكانه، فما كان من جحا إلا أن قال له: عليك أن تأكل حفنة من القاذورات حتى أوافق، ففعل ذلك، وظلا هكذا إلى أن وصلا إلى المدينة، فأخبر (جحا) صديقه التالي: (إذا كنا سنركب الحمار بالتناوب مسافة الطريق، فبالله عليك لماذا أكلنا كل هذه القاذورات!!!).
الجواب: عند سلطان الإخوان المسلمين، وعند أتباعه، وفي نتائج سياساتهم (مواء القطط)!!!