تجعلني أغير حيزي المكاني
| إسماعيل مروة
نصٌّ شعري مترجم مذهل وقفت أمامه مطولاً، فقد استطاع الشاعر المعروف إيطالياً ميكل كاكامو، الذي ترجمت مجموعات عديدة من شعره إلى العربية أن يظهر لي ما عجزت عن رؤيته، وفيه حل كثير لمشكلاتنا، ولمشكلات الإنسان، خاصة عند الإنسان الذي يدّعي المعرفة، ويدّعي الصلاح، ويسم الآخرين بالفساد، سواء كان هذا الفساد حقيقياً أم غير حقيقي.. ففي كل يوم نسمع عشرات المرات من انغمس في الفساد، وافتقد الروح التائقة إلى الجمال يتحدث عن إصلاح المجتمع والسياسة والدولة، وربما سمعنا من أحدهم انتقادات غير محدودة للآخرين، ويخرج هو في حديثة طاهراً لم تشبه شائبة، بينما يظهر الآخر ملوثاً إلى درجة غير معقولة، وربما جبن أحدهم عن إجابته.. وفي كل يوم نجد من تسنّم موقعاً وهو منغمس في الفساد والذاتية والخراب الذي يتجاوز الفساد، وهو إن جلس إلى أحبابه تحدث عن النزاهة والعفة وهو غير مطلوب منه أن يكون عفيفاً ونزيهاً، ولكنه لأنه يفتقد هذه النزاهة يتحدث عنها كثيراً، ولكن هذا الرجل يطمئن إلى أنه ما دام في موقعه لن يتحدث أحد عن سوئه وفساده وعدم نزاهته، والجميع سينتظرون رحيله ليتحدثوا كما شاؤوا، وقد تساعدهم في ذلك الماكينة التي تتحدث عن نزاهته وتتغزل به في كل ساعة وهو في موقعه!!
يخاطبك أحدهم ويطلب منك أن تكون شديداً غير مخاتل، أو صاحب موقف ثابت غير متأرجح، وهو يجلس منذ ولادته على أرجوحة لم تثبت يوماً!! وآخر يطلب منك أن تكون متصالحاً، وهو في واقعه لم يعرف سوى الحقد والضغينة! وأنا هنا لا أطرح مقولات جاهزة تتناول العفة والطهارة والعهر، بل أطلب من الذي لم يطلب منه أن يكون عفيفاً ألا يقترب من العفة، وأطلب أن نبعد الصفات الشخصية اللازمة لتكوين أسرة من الصفات اللازمة لبناء مجتمع ودولة!
المفارقة المؤلمة والمضحكة في الوقت نفسه أننا لو ملكنا مؤسسات اجتماعية ومراكز إحصاء ورصد على وجه الحقيقة، وهذه المراكز تعمل على مدار الساعة، فإننا لن نعثر على أي نوع من الاتفاق على شخص أو حالة في أي ميدان من الميادين! والأكثر طرافة أن الشخص ذاته يعطي أكثر من رأي وفي أكثر من حالة وأكثر من وقت، وربما تبدل رأيه في الجلسة ذاتها بتغير المؤثرات من المتحدثين!
قلما يسمع أحدنا عند التقويم عبارات: هذا أتفق معه، ولكنه كذا… أو هذا أختلف معه، لكنه يتمتع بكذا… قلما يجرؤ أحدنا على الفصل بين الرأي والانتماء والتقويم للأشخاص، ولكن عندما تتعارض المصالح نجد أحدهم يخرج الخمير والفطير، ويتناول من كان مكان ثقة وصاحب مكانة، والأطرف أنك أنت المتضرر في الحالين تتحمل نتيجة هذا الذي عرف سوءه فجأة!
فهذا لأنه من القبيلة
وذاك لأنه من الاتجاه الفكري
وثالث لأنه يشارك في المكان
ورابع لأن يشارك في الاعتقاد
يقرب ويأخذ مكانة، وهذه التصنيفات الأربعة معكوسة، أي من لا يتطابق يتم إبعاده، وعندما تتوضح الحقائق، فإن المبعد هو الذي يدفع الثمن مرة أخرى، ونعود للبحث في كيس المختار عن آخر يشارك في هذه الانتماءات أو أحدها!!
مؤلم ما نراه وما يجري على الساحة العربية اليوم، وعلى الساحة السورية ضمناً، وهي الدافع وراء الحديث!
فإذا كان كل واحد من هؤلاء يرى نفسه طاهراً، فمن أين جاء هذا الكم من العهر؟
إذا كان كل واحد صالحاً فمن أين جاء الفساد؟
إذا كان كل واحد أميناً فمن أين نبت الخونة؟
إذا كان كل واحد في نظر نفسه أهلاً للمنصب والموقع، فمن أين نأتي بالمواطنين؟
كنا نتبادل هذه النكات التي قدمها الفن والغناء، ولكننا نراها اليوم حقيقة ماثلة أمام أعيننا، فهذا يدور بقامته، ويطلب من العالم أن يدور في فلكه، ليشيع بأنه قادم مسؤولاً لا محالة، ويطلق وعوداً للآخرين، والهدف إشاعة الموضوع ليصبح حقيقة!
وذاك يظهر تعففه، وهو لم يتورع عن مغافلة عامل البلدية لسرقة ما جمعه من علب معدنية فارغة لبيعها، ليجمعها هو ويتاجر بها ويصبح عصامياً في كل ما فعل!
إننا بلغنا اليوم مرحلة من الانهيار المجتمعي لم تمر بخاطر، فأصحاب المواقع المؤتمنون على الوطن والإنسان انغمس أكثرهم في مصالحه، والناس حيارى بين ما هو واقع وما يجب أن يكون، والوطن يتم استنزافه داخلاً وخارجاً، والزمن الذي نطمئن إليه هو الأكثرغدراً.
أعود إلى كاكامو وبراعة ما قال لأختم بخيبة وتصالح:
الأرواح التي في الأرض كلها
تؤلف معاً مستعمرة من المفسدين
تجعلني أغير حيّزي المكاني
تجعلني أمضي
وأتوارى
داخل غمد مطوّب
تطبق لي عينيّ
وتمعن في إذلالي
فلا يبقى لي أنا المعاقب
إلا أن أتخيل السماء
الخواء الهوائي
وأن أندلع
كمثل حجر مضيء
ولا شيء بعد.