عربي ودولي

البريكست من منظور إستراتيجيات الصراع الدولية

| القاهرة – فارس رياض الجيرودي

يمكننا أن نفسر الطلاق البريطاني لمشروع الاتحاد الأوروبي من زاوية نظرة البريطانيين لذاتهم الوطنية، ومعضلة شعورهم تاريخيا بهوية شديدة التفرد، ذلك الشعور الذي نشأ نتيجة الطبيعة الجغرافية للجزر البريطانية، لكن ذلك لن يكون كافيا لتفسير انفضاض رهان بريطانيا التاريخي على مشروع الاتحاد مع أوروبا، فالدول وخصوصاً الكبرى منها لا تعقد رهاناتها الإستراتيجية ولا تفضها من دون حسابات مصلحية معقدة تعلو في معظم الأحيان على حديث الهويات بنسخته الكلاسيكية القديمة والذي ما زال متداولا في دول العالم الثالث، والأجدى تفسير حدث مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي ضمن سياق خطط الغرب الإستراتيجية في حقبة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، تلك الإستراتيجيات التي وضعتها الدول الأوروبية بالشراكة والتنسيق الكامل مع الولايات المتحدة، كما أثبتت ذلك مجريات الأحداث خلال العقدين الماضيين.
لقد اعتاد المحللون في العالم العربي على النظر للاتحاد الأوروبي على أنه مشروع إقامة قطب جديد على الساحة الدولية يمتلك كل المؤهلات التقنية والاقتصادية والعسكرية ليكون مستقلاً وربما منافساً للولايات المتحدة في المستقبل، لكن الحقيقة أن هذه النظرة اشتقت من حقبة الجنرال ديغول الذي امتلك طموحات كبيرة لإقامة قطب مستقل عن القطبين المهيمنين خلال الحرب الباردة، وكسر في سبيل ذلك الستار الحديدي حول الاتحاد السوفييتي، ليدير علاقات فرنسية سوفييتية مستقلة عن حسابات الصراع الأميركي مع موسكو خلال الحرب الباردة، لكن مشروع ديغول لإقامة أوروبا مستقلة عن الولايات المتحدة لم يتجاوز حد المحاولات الأولية للمّ شتات الدول الأوروبية، ثم مات بوفاة شارل ديغول سياسيا عام 1969، إذ لم يمتلك أي من الذين خلفوه في منصب الرئاسة الفرنسية طموحات مشابهة، لذلك فإنه ليس مصادفة تأخر قبول طلب دخول بريطانيا للاتحاد الأوروبي حتى ما بعد تنحي ديغول عن منصب الرئاسة في فرنسا، فبريطانيا مرتبطة بعلاقات قومية وتاريخية وإستراتيجية مع الولايات المتحدة أعمق من علاقتها مع الدول الأوروبية، ودخولها للاتحاد الأوروبي يعني قبولا أوروبيا ضمنيا بشراكة أميركية مباشرة في المشروع الأوروبي.
ويمكننا أن نعتبر معاهدة ماسترخت التي وقعتها الدول الأوروبية في كانون الأول عام 1991 نقطة البداية الحقيقية لمشروع الاتحاد الأوروبي كما عرفناه في شكله الحالي، وهو في الواقع مشروع أقيم أساسا بهدف استيعاب دويلات شرق أوروبا المنفلتة من النفوذ السوفييتي عقب تفكك المعسكر الاشتراكي، وذلك بهدف محاصرة روسيا نفسها، وتضييق الخناق عليها، والحيلولة دون تعافيها، وصولا إلى العبث بوحدتها وتفكيكها، بالتوازي مع العمل على استكمال السيطرة على منطقة الشرق الأوسط أهم مناطق العالم إستراتيجياً وأغناها بالثروات، فأقصى ما كانت تطمح له أوروبا في عصر القطبية الواحدة لم يكن يتجاوز حد إقامة كيان شريك للولايات المتحدة يوظف الإمكانات الدبلوماسية والعسكرية والاستخباراتية الأوروبية في خدمة حروب الولايات المتحدة من أجل قرن جديد تستمر فيه سيطرتها على العالم، وذلك مقابل فتات الغنائم التي اقتنع بها زعماء أوروبا، ما سبق رأينا شواهده في حرب يوغوسلافيا وحربي الشيشان وغزو أفغانستان والعراق وحرب تموز، وفي الثورات الملونة التي اجتاحت شرق أوروبا، وفي تدمير ليبيا، وأخيراً الحرب على سورية والتي كانت أكثر تلك الحروب ابتكارا ونعومة، حيث وظفت فيها كل الأسلحة المحرمة وفي مقدمتها السلفية الوهابية المسلحة، وعندما تعثر المشروع في سورية، قرر الغرب شن آخر هجماته في أوكرانيا بهدف الإطباق على روسيا ومنعها من الوصول للمياه الدافئة، وسقط الرهان الأخير بعد انتزاع روسيا للقرم، ومع استمرار الصمود السوري، وعندها أصبحت تكاليف المشروع أكبر بكثير من الآمال المعقودة على نجاحه فقررت بريطانيا الانسحاب.
يقول السفير الأميركي السابق لدى روسيا مايكل ماكفول: إن «استفتاء بريطانيا هو انتصار لبوتين» وبأن الخطوة البريطانية «فائدة لسياسة بوتين الخارجية».
لذلك يضيف البريكست مؤشراً جديداً يؤكد أننا أصبحنا أمام عالم جديد ينهض فيه الشرق ممثلاً بتلاقي قواه الصاعدة روسيا والصين وإيران والهند في منظمة شنغهاي، على حين تتعثر وحدة الغرب ومشاريعه الهادفة لإدامة سيطرته على العالم وثرواته، والمستمرة منذ ثلاثة قرون.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن