ما سرّ التطبيع «التركي» مع «موسكو»؟!…
| خالد العبود
مرّ الموقف التركي من الصراع في سورية في ثلاث مراحل، وهي غير متشابهة، الأولى كانت محكومة بمشهد إقليمي دولي، لجهة تفكيك الدولة السورية، ثم إعادة إنتاج خريطة إقليمية جديدة تناسب مصالح دولية كانت تتطلع إليها الولايات المتحدة الأميركية، والحقيقة أن هذه المرحلة انتهت بإسقاط إمكانية تفكيك الدولة السورية، الأمر الذي أرغم «الأميركي» على القيام بدور جديد وتحويل منصات الصراع وأهدافه، وهو ما حتّم على «التركي» العمل وفق الانزياح الأميركي الجديد، أملا بالوصول إلى أهدافه وفق مرحلة جديدة من الصراع، من خلال التركيز على إمكانية إنشاء تحالف إقليمي يعمل منفردا بعيداً عن الموقف الأميركي الذي تراجع لجهة العناوين المذكورة أعلاه، غير أن هذا «التحالف الإقليمي» لم يستطع أن يحدث فجوة في الجدار، فقد بقي ناتج الصراع والمواجهة محكوماً برئيسيات نتائج المرحلة الأولى..
لم يكن «التركي» وحيداً بالعمل خلال هذه المرحلة، وإنما كانت هناك قوى إقليمية عديدة قد غردت خارج السرب الأميركي، أملا في التأثير في مشهد الصراع أو المواجهة، لأن «الأميركي» لم يكن بحاجة لهذه المرحلة الجديدة من قواعد الاشتباك، فهو أضحى في مكان يؤهله التفاوض على جملة عناوين لم تكن المنطقة مسرحها الوحيد، لأن «الأميركي» مشتبك مع الروسي في مواقع أخرى مختلفة، وهو مؤثر وفاعل فيها، وقادر على أن يحمي الحدّ الأدنى لمصالحه على مستوى المنطقة، بفضل ما أنتجه، أو أسس له، في مواقع أو منصات الاشتباكات الأخرى..
على حين أن كلاً من «السعودي» و» التركي» لم يكن أمامهما فرصة التأثير في ناتج الاشتباك إلا بمزيد من الاشتباك، أملا في تحسين شروطه وقواعده، وصولا إلى نتائج تمنح كلاً منهما إمكانية التأثير المباشر في طبيعة خرائط المنطقة، سياسيا واقتصاديا..
لقد أدرك «التركي» كما «السعودي» أن المنطقة أصبحت في مكان آخر تماماً، تقدم فيها «الإيراني» كثيرا، وصمود السوري وعدم القدرة على إسقاطه أعطياه أولوية كبيرة في التأثير في عناوين مهمة على مستوى المنطقة، فالمعادلات الإقليمية وعناوينها التي قام العدوان من أجلها لم ولن تتغيّر، وبالتالي فإن استقرار المنطقة أضحى حاجة ملحة لكلّ الأطراف، غير أن هذا الاستقرار سوف تؤسس له، وتساهم به، القوى التي أسقطت أهداف العدوان ذاته، حيث إن معادلة في السياسة صعدت أو شبه ترسخت، مفادها أن قدرتك على المساهمة والتأثير في معادلة استقرار المنطقة، وبقاءك مؤثراً فيها، يكمنان في قدرتك على التأثير في الحريق السابق لهذا الاستقرار، وهو ما فعله بالضط كلّ من «التركي» و«السعودي»، وهو عبارة عن استثمار في حريق المنطقة أملا في الوصول إلى طاولة جامعة للتأثير في إطفاء هذا الحريق..
لم تكن استخبارات أي من الأطراف نائمة، وإنّما كانت تطلق كامل طاقتها الكامنة وقدرتها على السيطرة على مفاتيح مؤثرة في طبيعة الحريق والصراع عليه، لأن الصراع لم يعد فيه، بمقدار ما هو صراع أضحى على الحريق ذاته، وهو ما لم ينتبه له كثيرون!!..
لم يستطع «التركي» أن يؤثر في طبيعة الحريق بغير الطريقة التي ابتدأ بها المواجهة، أو شارك فيها، لأنه لم يعد قادرا على تجاوز تلك العناوين التي أضحت راسخة في مشهد الصراع، فبقيت المساهمة التركية مساهمة عدوان، من دخول الإرهابيين والسلاح إلى عدم قدرته على توضيح موقفه من «داعش» أو بعض التنظيمات المسلحة الأخرى، حتى إنه لم يستطع أن يقدّم أو يساهم في تقديم طرف مسلح واحد نظيف، بمعنى أنه قادر على الاستثمار فيه وصولا إلى تأمين استقرار المنطقة، من خلال هذا الصراع أو تلك المواجهة..
لم يعد أمام «التركي» غير الخضوع لمشهد صاعد على مستوى المنطقة، وهو بحاجة ماسة للدخول على هذا المشهد، غير أنه ضعيف ومثقل بتبعات ناتج الاشتباك والعدوان التي لم تكن لمصلحته، فكان لابدّ من البحث عن مثقلات سياسية تمنحه إمكانية التأثير في المشهد، فلم يكن أمامه غير العودة إلى علاقات مفتوحة ومفضوحة مع «الإسرائيلي»، وهو عنصر التأثير المهم الذي يمكن أن يمنحه إمكانية الاستقواء أمام «الروسي» الذي أضحى رئيسياً في تحديد ملامح خريطة المنطقة..
في اللحظة التي كان يطبّع فيها «التركي» مع «الإسرائيلي»، كان يعبّد طريقه إلى «موسكو»، أملاً في الوصول إليها مع حليفٍ قادرٍ أن يمنحه إمكانية المساهمة في رسم خرائط إقليمية صاعدة، وأملاً في أن تسارع «موسكو» للمساهمة بدورها في تأمين عودته، براً أو جواً أو بحراً، للدخول على المنطقة من خلال البوابة الشامية، وهنا يكمن سرّ التطبيع «التركي» مع «موسكو»!!..