لا يشقّ له قصيدة!!
| إسماعيل مروة
كنت أستمع للإذاعة في طريقي إلى العمل، وبدأت نشرة فنية إخبارية، ولفت انتباهي خبر عن الفنان محمود عبد العزيز، وجاء في سياق الخبر استعراض لمعرفة صانع الخبر، فمرة ذكر عبد العزيز باسمه، وأخرى بلقب الساحر، للتدليل على معرفته بتاريخ الفنان، ولإعطاء نوع من التميز، وعند سؤال الفنان عن حضوره لموسم وغيابه لآخر، يقول الخبر على لسان الفنان: إن الدراما التلفزيونية مرهقة وتحتاج إلى تفرغ، ويضيف كما يقول الخبر: أنا أهتم بالكم لا بالكيف!!
عجيب أن يصاغ الخبر بهذه الطريقة، فمن يهتم بالكم يظهر في أكثر من عمل، والصواب هو أن الفنان عبّر عن اهتمامه بالكيف، أي بكيفية الظهور ونوعيته، ولكن التسرع حيناً والاستسهال أحياناً في الصياغة جعل الخبر بهذه الطريقة التي تحور كلام الفنان، وتسيء إلى التصريح وتشي بالتناقض، فمن يتفرغ لعامين من أجل عمل واحد لا يهتم بالكم يا صديقي…
قد يرى أحدهم أن هذا الخطأ طبيعي ووارد، ويمكن أن يقع ولا مشكلة فيه، وأنا أوافق الرأي، لكنني أقف عند العدة التي يمتلكها صانع الخبر الناقد، وهذا يعطينا فكرة عمن دلفوا إلى خانة النقد الفني والثقافي، فلي أن أتخيل مثل هذا الناقد الفني الذي لا يميز بين الكم والكيف، كيف سيكون نقده؟! من لا يميز بين مفردتين متناقضتين تماماً فكيف يمكن أن يصنع نقداً فنياً… ومن لا يميز بين المثقف والمبدع فكيف يمكن أن يقدم نقداً، وأي نوع من النقد يقدم لنا؟! من لا يؤمن بدور النقد والثقافة والمعرفة اللغوية، ما نوع المنتوج الذي يقدمه، ومن أي مستوى؟! منذ عقود وقع طلاق بين الإبداع والنقد، وصار النقد عبارة عن قصائد مدحية أو هجائية، ولم نعد نجد الناقد الذي يستند إلى معرفة ولغة ومنطقية! يتحدث الناقد في الشعر، ولا يعرف شيئاً عن الشعر وبحوره ومدارسه، ولن أسأل عن معرفته للموشح وشعر التروبادور المتصل اتصالاً وثيقاً بالشعر، ولن أسأل عن الدوائر العروضية، ولن أسأل عن معرفته بالشعر والتاريخ الشعري العربي والعالمي، فهذا أمر بعيد المنال! وكل ما أطلبه من ناقد للشعر أن يكون قد قرأ الشعر الذي قام بدراسته، وأن يكون على معرفة بالصورة الشعرية، فتخيل ناقداً لا يعرف الفرق بين التشبيه والاستعارة، لا يميز بين البديع والبيان، تخيل ناقداً لا يشمّ رائحة المتنبي العظيم!
وبالمقابل نجد المبدع المعجب بذاته، فهو لا يقرأ غير شعره، ولا يرى غير نفسه، وإذا سألته عن مزامل له لا يعرفه ولم يقرأه! ويمكن أن يعطيك حكماً نقدياً قاسياً لتغطية جهله بزميله! بل تخيل شاعراً ومبدعاً لا يعرف عناوين مجموعاته الشعرية التي جادت بها قريحته! ولكنه في الوقت نفسه يظن أن الناس يقفون في الطوابير للحصول على قصيدة له أو مجموعة كما الخبز!
وإن تعرض أحدهم لشعره بنقد لم يقف عند التفاصيل، وأسهل ما يمكن أن يقوم به هو وصف الناقد بالجهل وعدم المعرفة وعدم القدرة على فهم ما في الشعر من رموز وأبعاد! والأكثر طرافة وإيلاماً أنك لو دبجت معلقات المديح في أحدهم، ووضعت ملاحظات حول الإخراج وقضايا لا علاقة لها بالشعر استنفر وعبر عن فلسفة خاصة في الإخراج وترتيب الكلمات في الديوان!
إنها ثقافة عامة في مجتمعنا، هذه الثقافة تقوم على رفض الرأي الآخر، ولم يدرك الجميع أن المنتوج بعد نشره ملكية عامة، ومن حق أحدهم أن يرى رأيه فيه، وما أسهل أن يبدأ كيل التهم للذي لا يعجبنا رأيه، فهو وإن كان يجالسنا جلسات فيها ما فيها يوصف بالإسلام السياسي، وهو وإن كان ملتزماً يوصف بالتهتك، ويمكن أن تلتصق الصفتان بالشخص نفسه لرأيين قالهما في العلم والثقافة! وقد لا تجد من يقف في وجه الاتهامات حتى من مجالسيه!
ينظم الشاعر شعراً، ويكتب قصة، وتمر العقود من دون أن يلتفت إلى ما يكتبه أحد، وفجأة يصبح هذا المبدع مسؤولاً فتبدأ الدراسات بالانهمار على المبدع وإبداعه، ويطرب لذلك، من دون أن يسأل لم قرر المرتزقة والمستفيدون أن يقوموا بواجب أدبه بعد أن أصبح مسؤولاً؟! ويصدق نفسه بأنه المبدع الذي لا تشق له قصيدة مهما كانت هذه القصيدة تافهة ولا قيمة لها!!
ولكن ألم يفكر هذا أنه بعد أن تنتهي صلاحيته، وتغيب سطوته سيأتي السؤال أول ما يأتي من أولئك المادحين ليسأل: هل كان قاصاً؟! هل كان شاعراً؟!
الاستسهال والجهل والسطوة ثقافة تسيطر على حياة كل منا، فإن كان المبدع مبدعاً حقاً، فليفصل بين إبداعه ومكانته، عندها سيكون أكثر قدرة على استكشاف كنه الأشخاص، وفي المرتبة الأولى يصبح قادراً على معرفة إبداعه!