قضايا وآراء

الحسم السياسيّ لمعركة «حلب»!!

| خالد العبود 

كثيرون هم أولئك الذين يتعاملون مع الواقع الميداني السوري على أنه واقع عسكريّ صرف، فيحاكمونه ويحكمون عليه من منطلق أنه مواجهة عسكرية تقليدية، من غير حسابات أخرى لها علاقة بطبيعة الحاصل ونتائجه وملحقاته، وخاصة أنّ المشروع في أساسه مشروع تفتيت للدولة بالمعنى السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي، وبالتالي محكوم في أيّ معركة عسكرية بتبعات وحسابات اقتصادية وثقافية واجتماعية تتجاوز التبعات والحسابات في المعارك التقليدية..
حصل ذلك في أكثر من موقع ومدينة على مستوى الجغرافيا السورية، حتى بدا وكأنّ مقاييس السيطرة لدى البعض تحسب بمساحة الجغرافيا المسيطر عليها، في حين أن مساحة السيطرة على الجغرافيا، وفي أجزاء واسعة من الوطن السوري، كانت ذات دلالة مهمة جدّا لجهة طبيعة المشروع الداخل، وللنموذج الذي يتم تقديمه للسوريين بديلا من الدولة التي يدافعون عنها..
لقد كان ذلك واضحا في أكثر من مكان، ولولا هذا النموذج الذي تمّ تظهيره، من خلال تلك السيطرة على الجغرافيا، لكان حتى اليوم هناك من يتحدث عن «الثورة» وعن «الديمقراطية» و«السلمية» و«حقوق السوريين»، إلا أن جملة هذه العناوين التي تمّ تسويقها وتسليعها للسوريين، أضحت مكشوفة ومفضوحة، وعلى أنها عناوين افتراضية وهمية ليس لها علاقة بالواقع إطلاقاً، من خلال السيطرة على الجغرافيا واختبار طبيعة المشروع فيها..
إضافة إلى ذلك لا بدّ من تأكيد أن جزءا واسعا من هذه المعارك التي تخوضها القوات المسلحة السورية هو معارك تخاض بين السوريين وعلى حسابهم، أولا وأخيراً، والمعركة في بعد من أبعادها على جزء ممّن أُخذوا أو سُرقوا ليست عسكرية صرفة، وإنما هي معركة لها عناوين أخرى، لا تبدأ بالثقافي ولا تنتهي بالاجتماعي..
في تقديرنا أن حسم معركة «حلب» لن يكون بالمعنى العسكري للكلمة، ولن يكون كما يحاول البعض أن يسوّق لها، على أنها المعركة الكبرى القادمة التي سيتم من خلالها استعادة كامل حلب عسكريّا، لكنّنا نعتقد أن سيناريو السيطرة والحسم سيكون من خلال إبطال إمكانية أن يعوّل المشغّل الأساسي لهذه المجموعات على حصار «حلب» أو تهديدها، وذلك من خلال إستراتيجية عزل مطبق لكامل هذه المجموعات، وقطع إمكانية التواصل مع محيطها الساند لها..
إنّ تقدم الجيش العربي السوري وإطباق السيطرة على معابر ومساند حقيقية كانت تؤمن لهذه المجموعات إمكانية الاستثمار في محاولة حصارها لحلب، سوف يعزل بدوره هذه المجموعات، وسوف يحرق إمكانية تهديدها للسيطرة على «حلب» كاملة، وهو سيناريو العزل الذي طبّق تماما على حصار من أراد أن يحاصر «دمشق»، حتى تمّ تخليص العاصمة من إمكانية الاستثمار في التهديد بالسيطرة عليها، حيث تمّ الوصول إلى ناظم رئيسي لطبيعة المواجهة يؤكّد أن من عُوّل عليه يوما كي يحاصر «دمشق» ويسقطها، تم عزله تماما وإبطال مفعول قوته من خلال حصاره نفسه، وسحبه من يدّ المشَغِّل الذي طالما عوّل عليه واستثمر فيه..
تدرك جيّدا الإدارة الأميركية كما يدرك جيّدا «أردوغان» أن إمكانية السيطرة على «حلب» لم تعد واردة إطلاقا، غير أن الاستثمار في هذه الورقة يبقى قائما، من أجل أهداف سياسية أخرى، لها علاقة بطبيعة وخريطة وقواعد فضّ الاشتباك لاحقا، إضافة إلى ذلك تدرك الدولة السورية أن سقوط «حلب» والاستثمار في هذا السقوط أضحى وراء ظهرها، غير أنّها، أي الدولة السورية، تعمل على حسم المعركة تماماً، بالمعنى السياسيّ لها، من أجل إخراج «حلب» من فرضية التداول سياسيّا، هذا التداول الذي يحتاجه «أردوغان» كثيرا..
إنّ الحسم السياسي لمعركة «حلب» يخرحها من التداول تماما، مثلما تمّ إخراج معركة «دمشق» من التداول، وإسقاط إمكانية أن يستثمر «السعودي» فيها، وهذا الحسم سيجعل «أردوغان» مرغما على الخضوع لواقع سياسيّ جديد، هو في الحقيقة ناتج واقع عسكري تمّ إنتاجه بأقل الخسائر والتضحيات، قياسا على ما كان يمكن أن يحصل لو أن الحسم تمّ بطريقة عسكرية تقليدية وصرفة..
والحسم السياسيّ بهذا المعنى هو الذي سوف يضع «حلب» كما باقي المدن السورية الأخرى، على قائمة التحرير الكامل، لأن إسقاط مشروع السيطرة سوف يكون من الداخل، عندما تحاصره بشروط الهزيمة الخارجية، وعندها سوف يتم اختبار ما إذا كانت هذه السيطرة وهذا المشروع هو ناتج الجغرافيا لهذه المدن والمواقع السورية، أم أن هناك من استثمر في هذه الجغرافيا، وهناك من قبل أن يكون عميلا لمن أراد أن يستثمر فيها؟!..
بقي أن نؤكّد أن الحسم بالمعنى السياسيّ لمعركة «حلب» يتطلب مزيدا من الصبر والتضحيات، ومهما كان هذا الصبر ثقيلا على قلوبنا، ومهما كانت هذه التضحيات كبيرة علينا، تبق أقلّ بعشرات المرات من «حسم عسكريّ» بالمعنى الصرف للكلمة، لأن المعركة بهذا المعنى سوف تتطلب طاقة أكبر وخسائر أكثر وضحايا تفوق الحاصل الآن بمئات المرات، إن لم نقل بآلاف المرات!!..

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن