الشهوة والهوى
| د. نبيل طعمة
تعطلان الفكر حينما تسيطران عليه، آخذتين به إلى هاوية الدنيا، بعد أن أنشأتا مناخاً من الغفلة حوله، وفي الوقت ذاته ظهرتا كمكونين أنجبا قناعات آنية، بأن حياته مرتبطة بهما، فإذا تعلق بهما أخذتاه إلى مسيرة الدنيوية الفجة، ولم يعد لديه القدرة على العودة بعد أن يكون قد أضاع طريق الرجعة، وهما موجودتان في جلِّ الناس، طبعاً المتدينين غير المؤمنين، لأن الكفر الحقيقي هو الكفر في الإيمان، وهذا ما أيده الكتاب المكنون في سورة المائدة الآية 5 (وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) وليس الكفر في الأديان، ففي الأديان مسموح لكم دينكم ولي دين، وفي الإيمان ممنوع الواجب، ألا تعتمد عليهم حيث سيخذلونك، لذلك تجد أن اختيار الصح من الخطأ ليس بالأمر السهل، من باب أن الصواب صعب والخطأ جميل، فتحليل الواقع صاحب الحضور الصارخ والطاغي ضمن ثقافة المأساة والملهاة التي يمارسها الجمع تلقي بظلالها، تسرد تاريخ مراحل متعددة من حياة البشرية، تبحث عن الحظوظ السعيدة وحالات من المغامرات المبهجة والمؤلمة، أسئلة بلا أجوبة، وأجوبة تفرض حضورها عليك من دون أن تنبس ببنت سؤال. عطالة فكرية وجسدية أقرب للبطالة المقنعة، لا احترام لأي شيء، وقوف من دون تأثير، وحركة بلا تأثر، تجليات دينية إيمانية علمانية إلحادية، تبحث عن إعادة تأسيس للحركة والمسير، تتشابه مع القيامة بعد كل ما نراه، ونشهده، ونشهد عليه من دون الوصول إلى قرار يعيد الأمور إلى نصابها، فهل نحتاج المغناطيس لالتقاط الجراح، ومن ثمَّ العمل على لئمها. أزمة أنساب يقف في وجهها مهب الطمع الوجودي، خيانة الأوطان نقلات في فكر إنسان العصر ضمن مراحل نوعية، تتعرض لها الجغرافيا الإنسانية، نقاط ضعف كثيرة تسكن أي إنسان، نراها اليوم سيطرت على مكامن قواه، فغدا ضعيفاً في قراراته، غير قادر على التحكم بواقعه المأزوم، من دون قدرة على العودة إلى إنتاج السلام نتاج تسونامي بشري، يلتهم محطات الحياة الجميلة من بين ركام الدمار، فكيف تثق باختيارك إن لم يكن لك علم فيه، الحقيقة صادمة، وليست كما نتوقع عندما نستسهل الأمور، فإذا أدركنا أننا نعطي الأشياء أسماءها وقيمتها وأهميتها، فلنسأل أنفسنا عمن يعطينا أهمية حضورنا وظهور شخصيتنا، من هنا نجد أن لا أحد يعير انتباهاً لحالة المزاجية الفردية التي تخضع في لحظة إلى المساومة الهادمة أو البانية، فإما أن تعطي شيئاً، أو كل شيء، وإما تهدم شيئاً، أو كل شيء، المقارنة بين هذه وتلك تحتاج إلى المعجزة الإنقاذية، كي يتم تفادي هذه المعضلة، كيف يكون شكل الحال أمام هذه الأشكلة المؤقتة والمجردة بين الواقعي المنطقي واللامنطقي، ما الذي ينطبق عليه ويتفرع عنه؟ هل سيجردوننا من كل ما نملك، أو من جزئية منه؟ أم سيجبروننا على التحالف أو الدخول تحت أجنحته التي تشكل لنا الواقي الذكري كي لا نحمل أو نحمل الآخر جريرة ما اتفقنا عليه.
نحن الآن نقف بين ناري التجييش الدعوي الإسلامي والسكون العلماني الموسوم بالإلحاد، بين التغرير الشهواني الخطر المصور في عالم الجنان، وبين هوى أبنائنا الانغماسي في أتون حرائق وجودنا والزيت المسكوب من الجوار على نارنا، نقف متقابلين متقاتلين مع المتلذّذين بخيانة وطنهم ومجتمعهم وطعنه في الصدر والظهر، سيناريوهات داخلية غيبية التقت مع سيناريوهات خارجية بالغة الدقة في خطورتها، ينفذها مديرون متمرسون في شؤون تفتيت المجتمعات والأمم بعد هذا الذي جرى، ومازال مستمراً في جريانه، وإن هدأ قليلاً فهل يعني لنا أن وعينا نضج، واستوعبنا حجم ما حيك لنا، وهل غدونا قادرين للاستماع والالتقاء مع بعضنا ولبعضنا، وخاصة المؤمنين بالوطن وضرورة الأخذ بنواصي الأمور، والاتجاه مباشرة ومن دون مواربة لإنجاز عملية الخلاص، وهل استخلصنا الدروس والعبر، ووصلنا إلى حدود الاعتراف بالأخطاء المرتكبة من الجميع، وآمنا بعدم التهرب من المسؤوليات الجسام الواجب الاتجاه إليها، والشروع بعملية إصلاح واقعي تعيدنا إلى الحياة النقية والراقية بدلاً من التمسك بحتمية الموت المسكونة في المنجز الديني الممتلئ بالشهوة له والتعويضات الهائلة في عالم الخلود، وبعد الوصول إلى هذا الموت الذي لا يلغيه أو يبعده إلا الدخول في عملية بناء الحياة المتجسدة في الحاضر، وإذا استطعنا تعميم نظرية الهوى للحياة، وقدرنا على دحر الشهوة، ودخلنا بقوة إلى اكتشاف المجهول من عالم الحياة من دون خوف أو رهبة، وعملنا على الذهاب للمستقبل من دون هواجس، امتلكنا خيوط الخلاص الإنساني، ليغدو الحاضر أساساً له، ويستحق الاشتغال فيه، فتزول به عداوة المجهول والحيرة من الأبدية، ليصبح التصالح ويمسي على علاقة حميمية بين الحاضر والمستقبل، وتظهر نشوة الهوى وشهوة البقاء أكبر من أي مطروح فكري آخر.
البطون الخاوية لا تشتهي ولا تهوى لغة السياسة وخبزها؛ بل تتجه إلى عوالم البنادق والرصاص، ومن هذه البطون التي يقدم لها البارود الذي يتقبل كل شيء، وبشكل خاص الانحلال الأخلاقي، تظهر نواة الأزمات التي إن لم تعالج سريعاً تصل إلى ما وصلنا إليه، وبشكل خاص إلى الجوع الاجتماعي الذي يتلقفه الخارج المنتظر بسرعة مذهلة، يدفع به لتشكيل نيرانه تحت رماد وهمي، ينفخ فيه كل ما دعته الحاجة، يؤدي إلى استعار الصراع وتبلور المواقف المحرجة القوية الضاغطة واللينة الخبيثة، لذلك نجد أن اجتماع الشهوة والهوى ينتج مرحلة طويلة أو قصيرة نطلق عليها العيش في الجحيم، وهذا الذي يحصل تحت مسمى الربيع العربي الذي أريد من خلاله تدميرنا كلياً، وفعلوا ونجحوا إلى حدٍّ كبيرٍ في إحداث هذا التدمير وإسكاننا الجحيم، وحلمنا أن ندخل الجنان من جديد، من باب أن الجنان تخصُّ المسلمين وهي لهم وحدهم، وبهذا التخصص تظهر فكرة التطهير العرقي والديني التي أوجدها المفسرون والأئمة، ومن خلالها طوروا الشهوة لكل شيء، وعملوا على إفناء الهوى وإحلال الخوف مكانه، إلا على الندرة العارفة العالمة التي أدركت ما حاك أولئك الأولون، واستمر على نهجهم القادمون.