على خطا رجل حقيقي
| مها محفوض محمد
الأبطال الحقيقيون لا يموتون بل يستمرون في الحياة وفي غزو القلوب لأن أمجادهم تتخطى الحدود وكما خلدهم التاريخ في معارك الجيش السوفييتي ضد النازية سيخلدهم اليوم في معارك الجيش العربي السوري في حربه العالمية أيضاً على أشرس أنواع العدوان بصموده الذي أدهش العالم وفتح صفحة تاريخ جديد.
في الذكرى المئوية لولادة البطل الأسطوري أليكسي مارسييف تروي لنا المجلة الروسية أوغانيوك كيف غير هذا البطل حياة الكثير من معجبيه.
أسطورة الحرب العالمية الثانية الطيار مارسييف كان سيبلغ مئة عام في شهر حزيران الحالي هو رجل حقيقي كما روى مآثره الكاتب بوريس بوليفوي أحد أشهر كتاب الاتحاد السوفييتي في رواية «رجل حقيقي» الرواية التي تعد النموذج الأمثل في طابعها التاريخي الحقيقي واحتلت مكانة مهمة في الأدب الروسي فخلال الحقبة السوفييتية كانت البلاد بأكملها تعرف من أليكسي مارسييف الذي أصبح معشوق جيل ما بعد الحرب فكل تلميذ سوفييتي يعرف القصة أي أن السوفييت اطلعوا على مآثر هذا البطل من خلال كتاب «رجل حقيقي» الذي يروي كيف أصيب الطيار ذو السبعة والعشرين عاماً بجروح خطيرة عندما أسقطت طائرته القاذفة في معركة الحرب الوطنية العظمى مع الألمان قرب الجبهة وبقي يصارع الموت ويزحف في الغابة مدة تسعة عشر يوماً ليبقى على قيد الحياة وبعد بتر ساقيه انتزع مارسييف السماح له بالبقاء في صفوف الجيش الأحمر ثم الذهاب إلى المعركة من جديد وتحقيق ست وثمانين طلعة جوية خلال المعارك وإسقاط إحدى عشرة طائرة معادية.
هذه كانت طرائد صيد بطل الاتحاد السوفييتي أليكسي مارسييف صاحب الارادة الخارقة، وقد تم نشر كتاب «رجل حقيقي» أول مرة عام 1946 حيث كان الكاتب بوريس بوليفوي قد التقى الطيار في الجبهة إذ كان يعمل مراسلا لصحيفة البرافدا السوفييتية فروى حكاية الطيار كما هي مع تغيير الاسم فقط وقد تمت إعادة طباعة الكتاب أكثر من ثمانين مرة بالروسية وتسع وأربعين بلغات شعوب الاتحاد السوفييتي وتسع وثلاثين مرة خارج روسيا بلغات مختلفة وفي عام 1948 تحوّلت الرواية إلى فيلم سينمائي، أيضاً في العام ذاته قام الملحن الكبير سيرغي بروكوفييف بتلحين أوبرا «قصة رجل حقيقي» وقد تم تقديمها في عروض كثيرة غير أن أول عرض لها على المسرح البولشوي كان عام 1960
(الجدير ذكره أن الرئيس بوتين أعلن العام 2016 عام الملحن الروسي سيرغي بروكوفييف).
لكن هذه الشهرة الكبيرة أربكت مارسييف كما روى ابنه فيكتور مؤخراً للصحفيين: «لم يكن أبي يحب لفت الانتباه والاهتمام الذي أثاره عند صدور الكتاب والفيلم، كان يقول هناك كثير من الناس مثلي لم يتسن لهم لقاء بوليفوي ليكتب عنهم».
وعن تأثيره في أشخاص خارج الاتحاد السوفييتي يروي رجل الأعمال الإسباني آنخل كاساخوس (72) عاماً قائلاً: كان عمري ثماني سنوات عندما قرأت قصة مارسييف وكانت تعرض أفلام سوفييتية في قريتنا عدة مرات خلال العام وكان الجميع يحب رؤية هذه الأفلام فتمتلئ صالة السينما بالناس وذات يوم ذهبت مع والدي لأرى فيلما عنوانه «رجل حقيقي» وقبل العرض قدموا لنا شرحا عن الشخصية الرئيسية في الفيلم بأنها نموذج حقيقي يحتذى وقد بقيت الصور الأولى منه محفورة في ذاكرتي إلى الأبد كيف تسقط الطائرة بعد إصابتها وكيف يصارع مارسييف الموت ليبقى على قيد الحياة في الغابة يزحف فوق الثلج ثم وفي المشفى بعد عملية البتر يحاول البطل أن ينهض من سريره ليخطو خطوات أولى بمساعدة جهاز تبديل الأعضاء.
وفور خروجنا من السينما قلت لأمي لقد قررت أن أصبح طيارا وبقي الحلم يلاحق آنخل كاساخوس إلى أن تحقق حلمه ودخل سلاح الجو وبقي فيه إلى عمر الأربعين حيث قرر تغيير مهنته والتحق في مصنع لتصنيع المداخن وفي بداية عام 1990 ذهب آنخل إلى روسيا لأول مرة في رحلة عمل يقول: كان شريكي الروسي سيأتي لملاقاتي في مطار شيريميتييفو وخلال رحلة الجو لم أتوقف عن التفكير أنه يجب أن أحدثه عن ذاك الفيلم السوفييتي الذي أسرني منذ طفولتي ومازالت مشاهده تدور في مخيلتي وأنني أرغب في إعادة مشاهدته لأعيش من جديد ما أحسست به عندما كنت طفلا، ومع أنه لم يكن من السهل العثور على الفيلم إلا أنني حصلت عليه في رحلتي الثانية إلى موسكو التي كانت في عيد الميلاد.
يقول آنخل: وصلت في كانون الأول فوجدت موسكو مغطاة بالثلج وقدموا إلي علبة مزخرفة بطريقة جميلة فتحتها فوجدت شريط «رجل حقيقي» وقد لصقت عليه صورة مارسييف ببدلته العسكرية للطيران وكانت مفاجأة سارة لي تأثرت بها كثيرا.
أما المفاجأة الكبرى فكانت عام 1998 عندما علم أصدقاء كاساخوس أن أليكسي مارسييف ما زال على قيد الحياة وتوصلوا إلى ترتيب لقاء مع آنخل الذي عشق هذا الرجل واصطحبوه إلى رابطة المحاربين القدامى وعند الباب أخبروه بأنه سيلتقي مارسييف.
يقول كاساخوس: «فتح الباب ورأيت رجلا طوله متران فانتابتني الدهشة تحت وطأة صدمة الانفعال، لقد شممت رائحة دواء أعادتني إلى صورة بتر الساقين غير أنني علمت أن مارسييف كان قد جاء للقائي فور خروجه من المشفى هنا أحسست كأني أرى اللـه وقد جاء من أجلي، يا إلهي هل أنا في حلم؟ لقد تحدثنا طويلا وشربنا كأسا من الكونياك وتعانقنا».
وطبعاً روى آنخل قصته إلى مارسييف كيف رأى الفيلم في طفولته وكيف دفعه لأن يصبح طيارا فروى له مارسييف بدوره أنه حين كان فتى صغيرا يأخذ الماء من برميل ليسقي بعض المزروعات سمع فجأة ضجيجا هادرا يمر فوق رأسه لقد كانت طائرة دهش وهو ينظر إليها واستلقى فوق الماء يصرخ ليتني أستطيع أن أقود هذه الآلية.
يقول آنخل: لقد كان اللقاء مع مارسييف اليوم المشهود في حياتي وأعرف أن قصة مارسييف دفعت الكثير من الناس ليقوموا بخطوات مهمة في الحياة وأنا واحد من بينهم.
في عام 2001 كان مسرح الجيش الأحمر يحضر له حفلا ساهرا بمناسبة عيد ميلاده الخامس والثمانين غير أنه في ذلك المساء وقبل ساعة من بدء الاحتفال مات مارسييف إثر نوبة قلبية وأعلن عن وفاته على المسرح الذي كان سيقام الحفل عليه.