عربي ودولي

الحياة مستمرة في الحركة (EMPUR SI MOVE) في تركيا … «أتلانتيك» أردوغان مازالت مندفعة نحو صخور المجتمع التركي

ضرب كوبرنيك قدمه على الأرض بعد إخفاق «انقلابه» على الجهل والاستبداد أثناء خروجه من محكمة التفتيش قائلاً للأرض: على الرغم من ذلك فأنت تدورين، قالها باللاتينية EMPUR SI MOVE.. وفي تركيا، على الرغم من انتصار أردوغان على الانقلاب فإن الحياة تدور في هذا البلد ضد توجهاته الاستبدادية.
هنا في النمسا تجد صورة تعكس الإعلام الأوروبي الذي لا يريد أن تتغير الحكومات عبر الانقلابات، لكن الذي يخشى أن نجاح أردوغان سيكون أسوأ من نجاح الانقلاب، ليس لأن «حلق أوروبا كان ممتلئاً من تصرفات أردوغان» قبل الانقلاب فحسب، وإنما لأن هناك توقعات بأن تركيا سوف يحكمها منذ الآن أردوغان جديد في أسوأ صوره.
ينقل الإعلام هنا كيف أن القارة العجوز والقارة الشابة (أميركا) كلتاهما كانتا تعانيان من «الحليف العاق والمستبد» لدرجة أن عدداً من المحللين من أصدقاء تركيا، خاصة في واشنطن، أعلنوا تذمرهم من ممارسات هذا الرجل الذي يمثل أيديولوجيا الإخوان المسلمين الأممية، بعد أن كانوا يعلنون تعاطفهم معه قبل سنوات.

مخاطر «أممية» الإخوان

صحيح أن الانقلابات العسكرية منبوذة من حيث المبدأ، لكن الجيش في تركيا على ما يبدو لم يكن هدفه استلام السلطة وإنما تخليصها من الاستبداد الأردوغاني. يرى إعلاميون أن الانقلابيين سموا أنفسهم «مجلس سلامة الوطن» وهذا له معناه عبر الكلمتين سلامة ووطن. هما ليستا مجرد كلمتين وإنما هما مصطلحان لهما مضمون سياسي مقصود. السلامة تعني عدم العسكرة وعدم الاستبداد أي المصالحة وهو تعبير كان أتاتورك يستخدمه باستمرار، والمصالحة تتطلب عدم التطرف وعدم تغليب الرأي على الآراء الأخرى كما كان يفعل أردوغان. أما الوطن فهو تعبير لا يحبه الإخوان المسلمون. فأردوغان يعتبر وطنه «في أي بقعة يقام فيها الآذان للصلاة»، أي إن بنغلادش مثلاً تساوي تركيا بالنسبة له. الأممية اللاوطنية تدخل في عقيدة الإخوان. كتب حسن البنا: «الوطن ليس تراباً وجغرافيا وإنما عقيدة»، منظر إخواني آخر كتب يقول: «الوطن عقيدة وليس حفنة من تراب عفن» هكذا.. وهذا هو سبب فشلهم في مصر بين الشعب المتدين جداً لكنه الوطني جداً جداً.
السؤال: إذا أخفق الإخوان في مصر بعد أكثر من ثمانين عاماً من محاولاتهم السيطرة على الحكم فكيف يمكن لهم أن ينجحوا في تركيا حيث العلمانية أعمق جذوراً؟ هذا هو سبب ارتطام سفينة الإخوان بصخور المجتمع التركي، أما الباقي فهو نتائج. إن الأممية الإخوانية دفعت بأردوغان إلى الإطاحة بمصالح الشعب التركي ثمناً لمعركة أممية لا أفق لها. وجه كل جهوده نحو جيرانه كلهم من بلغاريا واليونان حتى سورية والعراق، ومن روسيا وإيران حتى قبرص ومصر.. صفر مشاكل تحولت إلى صفر سلام وصفر أصدقاء. انقلب هذا كله سلباً على دور تركيا وموقعها في العلاقات الإقليمية والدولية، والأخطر أنه انقلب سلباً على المجتمع التركي.

إيديولوجيا الإخوان قسمت المجتمع

إضافة إلى «الملفات الساخنة» الخارجية المعروفة. صنعت «إيديولوجيا الإخوان» في تركيا أربعة ملفات داخلية خطيرة. الملف الأول الصدام مع أكراد تركيا، الثاني الصدام مع الجيش والقضاء ومكافحي الفساد، الثالث الصدام مع البرلمان (سحب الحصانة عن ربع الأعضاء)، الرابع الصدام الداخلي في الحزب. هذا الصدام الرابع فيه إشارة واضحة إلى أن أردوغان رفضه أهم حلفائه، رئيس الحزب السابق أحمد داوود أوغلو، وهو أسوأ ما يمكن أن يحصل له.
اصطدم الرجل مع حلفائه في الداخل والخارج، حتى مع حماته وداعميه كالولايات المتحدة وألمانيا ودول الاتحاد الأوروبي جميعها. وحسبك من قائد سياسي تصطدم سفينته بالجميع بلا استثناء.
ما إذا معالم قوته؟ أولاً الهروب إلى الأمام والإكثار من الممارسات الفظة ومضاعفة عدد المشاكل، أملاً باستعطاف مجموعة من الغوغاء الأمميين في المجتمع التركي، ثانياً خلق «حاجة عند الآخر للتعامل معه» عبر دعم الفتن والإرهاب والحروب (بما في ذلك دفع النازحين إلى أوروبا كي يؤدب بهم القارة العجوز ويفرض عليها شروطه)، ثالثاً التلاحم الوثيق مع المجموعات الإخوانية في العالم، خاصة في قطر وبعض قادة حماس الموجودين في الدوحة على بعد كيلوميترات من القاعدة الأميركية (عيديد).

ماذا بعد؟..

الانتصار على الانقلاب لا يعني أن «أتلانتيك» أردوغان ستبحر في مياه هادئة. العكس هو الصحيح، لأن الرجل – كما تشير أغلبية توقعات المتابعين وتخوفات المسؤولين الأوروبيين سيتجه نحو الديكتاتورية المطلقة. تصريحات المسؤولين الأوروبيين كلها تحذر من هذا الانعطاف الخطير بما في ذلك إعادة حكم الإعدام. علم نفس أردوغان يؤكد بأن الرجل مصاب بعقدة «البوميرانغ» التي تعني أنه كلما واجه ممانعة لا يتراجع عن رأيه وإنما يزداد تمسكاً به ويهرب إلى الأمام.
ذهب الانقلاب، لكن هل انتصر أردوغان؟؟.. النصر الحقيقي هو ليس في ذهاب الانقلاب وإنما في ذهاب الأزمات التي أدت إلى الانقلاب. الأزمات لم تذهب، هذا واضح. الواضح أيضاً أنها زادت أزمة جديدة عميقة ناتجة عن الانقلاب، وهي أزمة التصفيات في سلك القضاء والجيش. المجتمع التركي سيزداد غلياناً بالتأكيد، وأتلانتيك أردوغان ستصطدم بصخرات جديدة وإن تفادت إحداها مؤخراً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن