الأولى

واشنطن: مرونة ملغومة

| بيروت – محمد عبيد 

على الرغم من الانشغالات الإقليمية والدولية بمشروع الانقلاب وبالانقلاب على الانقلاب في تركيا، وفي ظل احتمالات انكفاء نظام أردوغان نحو الداخل لاستيعاب تداعيات الانقلابين ولمواجهة استنزافهما سياسياً وإنسانياً من خلال سعيه لامتصاص المواقف الغربية الأميركية والأوروبية الداعية إلى التعاطي بأسلوب «حضاري» مع الشعب التركي ونخبه السياسية والقضائية والأمنية والعسكرية وحتى الاقتصادية المنافسة لحلفاء النظام من رجال أعمال واقتصاديين، تبقى الأزمة في سورية محور الحراك الأميركي-الروسي وخصوصاً أن الطرفين كانا قد أرسيا أثناء زيارة وزير الخارجية الأميركية جون كيري الأخيرة إلى موسكو مشروع صيغة مقاربة مشتركة لهذه الأزمة، كما كان من المفترض أن يبادرا إلى التشاور مع حلفائهما المعنيين في أوروبا وفي الشرق الأوسط حول إمكانية تطبيق هذه المقاربة وتوقيت بدء العمل بها نظراً لما تقتضيه من تحضيرات سياسية توافقية وميدانية ولوجستية.
ووفقاً لمصادر ديبلوماسية متابعة، فإن المرونة الظاهرة التي يبديها الجانب الأميركي والتي حملت كيري وحملها إلى روسيا لم تتم ترجمتها في ورقة المقترحات، ذلك أنها تضمنت أيضاً مجموعة من المحظورات والثوابت التذكيرية التي من الممكن أن تعيد النقاش بين الطرفين الدوليين إلى نقطة البداية.
وتضيف المصادر نفسها إن الإستراتيجية الأميركية تجاه الأزمة في سورية لم تتبدل في المضمون، فهي مازالت تحاول التحايل على المطلب الروسي بتصنيف بعض الفصائل الإرهابية المسلحة وفي مقدمتها «جبهة النصرة» في الخانة نفسها مع «داعش» عبر استعمال تعبير «القاعدة» وتجنب الربط بين النصرة والقاعدة! كما تفعل روسيا وقوى محور المقاومة من خلال التأكيد أن جبهة النصرة هي الفرع السوري لتنظيم القاعدة، ما يعني أن واشنطن لا تريد إضفاء «مشروعية» توافقية مع موسكو على العمليات العسكرية التي يقوم بها الجيش العربي السوري وحلفاؤه في مدينة حلب ومحيطها وريفها ضد النصرة ومثيلاتها كجيش الفتح وفصائله المختلفة، بل إن هذا الموقف «يشرعن» عملياً جميع الجرائم التي ترتكبها هذه الجبهة وغيرها من التنظيمات الإرهابية ضد هذا الجيش وضد الأحياء المدنية الآمنة في تلك المدينة ومناطق ريفها.
وتتصاعد المطالب التعجيزية الأميركية لتبلغ حد الاشتراط بضرورة إبلاغ القيادة العسكرية الأميركية المعنية بالتنسيق مع نظيرتها الروسية بموعد الطلعات الجوية القتالية الروسية قبل انطلاقها بزمن محدد إضافة إلى ماهية الموقع المستهدف والجهة التي تتحصن به أو تَشغله. وتبلغ هذه المطالب ذروتها عند الحديث عن ضرورة البحث في مصير الرئيس السوري بشار الأسد بالتزامن مع العودة للإشارة إلى المرحلة الانتقالية المفترضة كمحطة في مسار التفاوض السياسي لا بد من التوقف عندها لإطلاق آلية تسوية أو حل يعوض على الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الإقليميين السعودية وتركيا فشلهم العسكري في السيطرة على سورية وتبديل موقعها القومي والإستراتيجي في منظومة الصراع ضد العدو الإسرائيلي والمشاريع الأميركية في المنطقة.
يبدو أن موسكو تتبع في حوارها مع واشنطن مقولة: مالايُدرَك كُلُه لايُترَك جُلُه.. وهو توصيف يصح تماماً على الديبلوماسية الروسية المتبعة منذ التورط في مشروع الهدنة الهشة التي لم تلتزم بها الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها وأدواتهم الإرهابية المسلحة يوماً. لكنها، أي موسكو، مازالت تراهن على الاستفادة من الإحساس الأميركي بضرورة الشراكة مع روسيا لمعالجة الأزمة في سورية وتجنب دفعها للعودة إلى بدايات مرحلة «عاصفة السوخوي» مع ما يعنيه ذلك من استعادة لتحالفات إقليمية فاعلة كان أبرزها مع إيران.
المفارقة أنه كلما حقق الجيش العربي السوري وحلفاؤه تقدماً ميدانياً مهماً كالذي يحصل في حلب ومحيطها أو في المناطق الحساسة المحاذية للعاصمة دمشق، يحرك الطرف الأميركي ماكينته الديبلوماسية في مسعى لإيقافه عند حدود تمنع تعديل موازين القوى في الميدان، هذا التعديل الذي إن لم تسارع أيضاً لاحتوائه فستترتب عليه نتائج سياسية تُعَجل النصر الموعود.
على أي حال، من المفترض أن الواقع السياسي والعسكري الإقليمي بعد الانقلابين الأخيرين في تركيا ليس كما قبلهما خصوصاً فيما يعني النفوذ الأميركي في المنطقة، وهي فرصة يجب على رابحين مفترضين هما روسيا وإيران أن يستثمرا فيها وعليها لتمكين الدولة في سورية من هزم الإرهاب المنتشر على أراضيها وتطويق المساعي الأميركية المستدامة لتوهين الإنجازات الميدانية للجيش العربي السوري وحلفائه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن