ثقافة وفن

أخلاق العصر

| د. علي القيّم 

قال محدثي: رغم ظلمة وظلم الظروف الراهنة، وما حدث ويحدث في وطننا العربي، فأنت لا ترى في الأزمات والأحداث ما يستدعي أن ترتجف منه.
قلت: الأزمة هي مرحلة ولادة وهي آلام مخاض، والأمم تنهار وتنتهي حين تنتهي الاستجابات وتبقى التحديات، وإننا مع بداية التاريخ ولسنا مع نهايته.. من يدرس ا لتاريخ العربي الإسلامي، وتاريخ الحضارات التي أينعت وازدهرت منذ آلاف السنين على أرض وطننا العربي، يدرك جيداً مدى حيوية التاريخ العربي ومدى تجدد العقل الذي كان يبحث وما زال عن التوازن بين الموروث والرافد، وعن تحول في الثقافة العربية من الاستهلاك إلى الإبداع، وما زال يبحث عن التوازن بين الحداثة والتراث.
قال محدثي: يعيبون علينا أننا لم نبذل حدّاً كافياً من الجهد المعرفي والعلمي، ويرون أن الفكر العربي ما يزال سكونياً.
قلت: في هذا الرأي مصداقية كبيرة، وفي تجارب الشعوب نماذج كثيرة يمكن أن يستفاد منها، وأهم ما يمكن الإشارة إليه تجربة اليابان التي تقدمت وتمكنت من الحداثة من دون أن تقع في تابعية مطلقة للغرب، وقد دفعت أثماناً باهظة من أجل ذلك، وتؤكد التجارب أهمية التنمية البشرية، فهي نقطة الانطلاق نحو استنهاض ثقافي متين، في وقت الانبهار بثقافة العولمة، والاعتقاد بأن عصر المبادئ قد انتهى، وعصر القيم السامية قد ولى. وأن المصالح وحدها هي التي ينبغي أن تحترم، فلا صداقات، ولا قرابة دم أو عصب أو لغة أو دين أو ثقافة، ولا عهد ولا ذمة ولا كلمة شرف، فحيثما تكن المصلحة تكن الحقيقة، وحين تستطيع أن تنال بالقوة شيئاً فهو حقك.. تلك هي فلسفة «ثقافة العولمة» التي تهدف إلى إلغاء الآخر، وتحطيم القيم الإنسانية السامية النبيلة الموروثة من الماضي البعيد.
لقد أوجدوا لهذه الأخلاق «العولمية» تسميات براقة، تحت لافتة «ثقافة العولمة» و«أخلاق العصر» و«مجتمع القرية الكونية» التي يحاولون من خلالها، وبكل ما تملك من قوة إعلامية وتقنية مادية أن تفسد المجتمعات البشرية، وينشرون ثقافة الوهن والهزيمة والاستسلام، والتطبيع والتخاذل المريع.. وكل هذا يتم ضمن تخطيط مسبق، وأهداف إستراتيجية مدروسة، ويريدون من شعوب العالم أن تصدق نظرية «الإنسان في العالم الثالث لا يشعر بالألم»!!
قال محدثي: وهذا يعني أن السكونية التي نعيشها بكل أبعادها الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، سوف تؤدي بنا في النهاية إلى مرحلة الانكماش والتضاؤل والزوال.
قلت: قديماً قال الفيلسوف اليوناني «هيراقليطس» جملته الشهيرة: «لا استقرار لشيء» ووفق هذا يمكن أن يكون اللااستقرار تطوراً مستمراً، وتغيراً إيجابياً دائماً، أو لا استقرار سلبياً، وهذا ما نخاف منه ونخشاه في عالم اليوم، الذي أصبحت فيه العيوب والمشاكل والأزمات لم تعد تدهش أحداً، ولم تعد تحرك أحداً، وهذا كله من نتائج مرض «حضارة العولمة».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن