من دفتر الوطن

ابن بلد السيد المسيح

| حسن م. يوسف 

يصف العلماء حالة الجسم عندما يكون ثابتاً في مركز تجاذب قوتين متكافئتين بـ«الاتزان الفيزيائي»، وقد كنت خلال الساعات الأربع الماضية ثابتاً لا أتقدم ولا أتأخر بين قوتين متكافئتين، قوة تشدني للكتابة عن جريمة الذبح الشنيعة البشعة التي اعترفت «حركة نور الدين الزنكي» بأن التابعين لها قد اقترفوها بحق الطفل الفلسطيني عبد اللـه عيسى البالغ من العمر اثني عشر عاماً، وقوة أخرى تشدني للكتابة عن شبابنا الذين يحملون اسم سورية في قلوبهم ويفرضونه على المشهد العالمي بكفاءاتهم ومواهبهم. أربع ساعات من (الاتزان الفيزيائي)! لم أتمكن خلالها من كتابة حرف واحد.
لست أخفيكم أنني أنفر من الكتابة عن الحرب، فالحرب باعتقادي تضع الإنسان بين خيارين أحلاهما مر، إما أن يتحول إلى جثة أو إلى آلة قتل، والحق أنني أتفق مع الأديب الألماني توماس مان في اعتقاده أن «الحرب هي هروب جبان من مواجهة مشاكل السلام. « غير أني لا أجد الحرب أقبح الأشياء في عالم البشر، بل أتفق مع الفيلسوف وعالم الاقتصاد الإنجليزي جون ستيوارت ميل في قوله «إن انهيار وانحطاط القيم، وانعدام الشعور الأخلاقي الوطني الذي يجعل المرء يعتقد أن لا شيء يستحق الحرب هو أسوأ من الحرب بكثير».
أعترف لكم أنني أتجنب رؤية مشاهد العنف المفرط، كي لا تنتقل إلى نومي وتتحالف مع الكوابيس ضد ما تبقى في روحي من أحلام، ومع أنني لم أر مشهد ذبح الطفل عبد اللـه عيسى، إلا أن كلماته وهو يرجو قتلته أن يعدموه رمياً بالرصاص لا بالذبح، لم تتوقف عن التكرار في رأسي كحبات مسبحة تتوالى بين أصابع دامية.
وأنا في حالة (الاتزان الفيزيائي) غير المتزنة لفت انتباهي أن اسم ذلك الفتى المذبوح يزدحم بالدلالات والرموز. فاسمه الأول «عبد الله» هم اسم مشترك لكل البشر وقد اعتاد أجدادنا أن ينادوا أي شخص لا يعرفون اسمه: «عبد الله» مما يجعله شقيقاً وقريناَ لكل واحد منا، واسمه الثاني: «عيسى» يتطابق مع اسم الرسول الفلسطيني عيسى بن مريم عليه السلام، الذي ذكر اسمه في القرآن خمساً وعشرين مرة، في حين ذكر اسم الرسول محمد عليه السلام أربع مرات.
كثيرة هي الجرائم البشعة التي ارتكبت بحق أبناء شعبنا خلال هذه الحرب الإجرامية التي تشنها الفاشية العالمية الجديدة على بلدنا الحبيب سورية، والتي كان آخرها مذبحة الحديقة العامة في حلب، لكن جريمة ذبح عبد اللـه عيسى تكاد تكون الأكثر بشاعة على مستوى الفاعل والمفعول بها، فمن نفذ عملية الذبح ليس مجرد متعصب دموي أمي بل هو من خريجي جامعة حلب! وعبد اللـه عيسى لم يكن مجرد طفل عادي في الثانية عشرة من العمر يذبح انتقاماً من والده الذي يقاتل إلى جانب الدولة السورية في لواء القدس، بل كان طفلاً مريضاً يعاني من مرض «الثلاسيميا» الذي يسمى بفقر دم حوض البحر الأبيض المتوسط وهو مرض وراثي يسبب فقر دم مزمن يصيب الأطفال في مراحل عمرهم المبكر، نتيجة لتلقيهم مورثين معتلين، أحدهما من الأب والآخر من الأم. يتطلب هذا المرض عمليات نقل دم متكررة ينجم عنها ترسب الحديد الذي يصبح ساماً على القلب وعدد من أعضاء الجسم الحساسة، وللحيلولة دون تسمم المريض يعالج بدواء يدعى دوسفيرال، يسحب الحديد من الدم، ويضخ طوال النهار إلى جسده نقطة فأخرى عبر إبرة موصولة بمضخة تثبت إلى جسده.
الشيء الأكيد هو أن الفيديو الذي يصور عملية ذبح الطفل عبد اللـه يثبت بوضوح أن المسلحين كانوا على دراية بطبيعة مرضه وأن الشيء المثبت إلى وسطه هو مضخّة (دوسفيرال). رغم ذلك فقد ذبحه شخص يحمل شهادة عليا من جامعة حلب! وهذه التفاصيل مجتمعة تجعل ذبح الطفل عبد اللـه عيسى لا تقل شناعة عن جريمة صلب ابن بلده عيسى المسيح عليه السلام!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن