روسيا اشترطت على تركيا التعاون بشأن سورية لاستعادة الثقة بين البلدين والرياض تعرض عليها «طبخة حصى»
لم يعد أمام السعودية «المستبعدة» من حلفائها الغربيين عن المحادثات الخاصة بمستقبل سورية والمنطقة، والتي اهتزت علاقاتها بتركيا بسبب انحيازها لمحاولة الانقلاب على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، سوى أن تتلمس الطريق إلى الكرملين عبر عرض صفقة «غير لبقة» لا يمكن وصفها سوى بـ«صفقة حصى».
وشهدت العاصمة البريطانية لندن الثلاثاء الماضي، اجتماع وزراء خارجية الدول الأوروبية الأساسية (ألمانيا- بريطانيا- فرنسا- إيطاليا) مع نظيرهم الأميركي جون كيري، الذي أطلعهم على نص الاتفاق الذي توصل إليه مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في موسكو الأسبوع الفائت. وجرى استبعاد وزير الخارجية السعودي عادل الجبير عن الاجتماع الغربي، علماً أن الاتفاق الجديد يقوم على فتح جبهة أميركية روسية ضد جبهة النصرة مقابل حماية «المجموعات المسلحة المعتدلة» من قصف الجيش السوري وتهيئة الأجواء لإعادة إطلاق محادثات جنيف السورية. ويؤشر اقتصار الاجتماع على الدول الغربية فقط، على الرغم من وجود الجبير في لندن، الذي دعي للمشاركة في اجتماع خاص باليمن إلى تهميش السعودية فيما يتعلق بالملف السوري.
وأثار استبعاد الجبير عن الاجتماع حنق الأخير، الذي وجه تحذيراً «ناعماً» للأوروبيين، قائلاً: «ليس جيداً أبداً استبعاد السعوديين»، وذلك في مقابلة مع مجلة «بوليتكو» الأميركية من العاصمة البلجيكية بروكسل.
ويضاف التوتر السعودي الأوروبي المستجد، إلى الفتور المزمن في العلاقات مع الإدارة الديمقراطية على خلفية الآراء المعلنة للرئيس الأميركي باراك أوباما تجاه الرياض.
وهكذا، لم يعد أمام السعودية من خيار واقعي على المستوى الدولي سوى: روسيا، سواء كمناورة من أجل الضغط على الحلفاء الغربيين، أو لمواجهة التغيير في العلاقات السعودية الغربية. عامل آخر يضاف إلى ذلك، هو موافقة واشنطن، حسبما تسرب عن الاتفاق الروسي الأميركي الجديد، على تخفيف عزلة موسكو الدولية التي فرضتها الدول الغربية على الأخيرة على خلفية الأزمة الأوكرانية. وربما وجدت السعودية أنها، وتجاوباً مع الموقف الأميركي الجديد، قد تضطر إلى تطبيع العلاقات مع موسكو، من دون أن تحصد أي مقابل من روسيا.
وطوال عام 2016 الجاري، ابتزت السعودية روسيا بزيارة الملك سلمان بن عبد العزيز. وجرى الإعلان في موسكو عن موعد الزيارة الملكية عدة مرات، قبل أن يتم تأجيلها لاحقاً بشكل غير مفهوم.
ولعل خلطة من إدراك الجبير لعمق ضائقة بلاده، المتورطة في المستنقع اليمني، الإستراتيجية، ومخاوفه من فرض اتفاق أميركي روسي في سورية على السعودية، هو ما دفعه إلى تلمس الخط الروسي، وذلك من منبر إعلامي أميركي. لكن الوقاحة التي صاحبت تصريحات الجبير، تعبر أيضاً عن نزق أو ربما أنها مقصودة، ليس من أجل وأد العرض في المهد فحسب، بل أيضاً لتخريب الجهود الروسية الأميركية المتجددة لحل الأزمة السورية.
وأعلن الجبير أن بلاده مستعدة لإعطاء «حصة» لروسيا في الشرق الأوسط تفوق ما كان لها أيام الاتحاد السوفييتي، وذلك مقابل تخليها عن الرئيس بشار الأسد، ولوح للروس بورقة التعاون بين السعودية وبلادهم «أكبر منتجي النفط في العالم» في سوق هذا الخام، فضلاً عن وعود بالاستثمار المالي في الاقتصاد الروسي الرازح تحت العقوبات الغربية بسبب أزمة أوكرانيا.
وأشار إلى إدراك بلاده للمصاعب الاقتصادية الروسية جراء العقوبات الغربية، معتبراً أن مفتاح الحل موجود في الرياض، عبر فتح سوق الخليج أمام موسكو لإمكانية استفادتها من تكتل استثماري تفوق قدرته الصين. واعتبر أنه من المنطقي أن تقول موسكو إن ما يصب في مصالحها هو تعزيز ودفع علاقاتها مع الرياض قدماً إلى الأمام، وليس مع الرئيس الأسد. وقال مشدداً: «إننا نختلف (مع الروس) بشأن سورية، لكن خلافنا يتعلق بالدرجة الأولى ليس بنتيجة اللعبة بل بالطريق الذي يؤدي إليها». وعاد إلى تكرار أن أيام الرئيس الأسد معدودة، وقال متوجهاً إلى الروس بأسلوب يفتقر إلى الدبلوماسية واللياقة: «اقبلوا الصفقة على حين يمكنكم ذلك».
وأكدت المستشرقة الروسية يلينا سوبونينا، في تصريحات لقناة «روسيا اليوم»، أن العرض السعودي ينم عن «قلة خبرة دبلوماسية وسياسية». ورأت أن الجبير لا يملك القدر الكافي من الخبرة اللازمة لتقييم أهمية روسيا في العالم. وأعربت عن اعتقادها أن مصالح روسيا في الشرق الأوسط أوسع بكثير من موضوع دعم الرئيس الأسد أو أي سياسي آخر. وأعربت سوبونينا عن اعتقادها أن القيادة الروسية لا تعتزم في المستقبل القريب تغيير مواقفها في سورية على الرغم من العلاقات الجيدة مع الرياض. وإذ أشارت إلى أن تطوير التعاون الاقتصادي التجاري بين السعودية وروسيا قد يساعد في تخطي الخلافات السياسية، قالت «(لكن) ابتزاز موسكو غير مقبول بتاتاً».
وأشارت إلى أن المشكلة في سورية «لا تقاس بالمال»، موضحةً أن «الهجمات الإرهابية الأخيرة» تدل على أن الأزمة السورية «محفوفة بخسائر عالية جداً بالنسبة للعالم كله»، وتساءلت «بكم يمكن تقدير حياة الأطفال الذين لقوا حتفهم في (مدينة) نيس (الفرنسية)؟». وختمت حديثها بالإشارة إلى موقف روسيا التي تركز حالياً على «توحيد الجهود في مكافحة الإرهاب، وليس طرح موضوع المصير السياسي لـ(الرئيس) الأسد».
وفي هذا السياق، أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الجمعة عن عدم وجود أي ضمانات لتجنب تكرار السيناريو الليبي في سورية إذا ما رحل الرئيس الأسد، مشيراً إلى أن نظيره الأميركي طرح خلال زيارته إلى موسكو مؤخراً رحيل الرئيس الأسد كشرط مسبق لتوحيد الجهود الرامية إلى مكافحة الإرهاب. وأضاف، وفقاً لـ«روسيا اليوم»، «لكن موسكو ترى ذلك (إبعاد الرئيس الأسد عن السلطة) ممكناً فقط عبر الانتخابات».
وربما فات الجيبر أن الرئيس بوتين تلقى العديد من العروض سواء من سلفه الراحل سعود الفيصل في 2014، أو من مدير الاستخبارات السعودي السابق الأمير بندر بن سلطان في 2013، فما كان جواب بوتين سوى الرفض القاطع، علماً أن المعطيات كانت حينها مختلفة ولغير مصلحة الروس.
والآن، بات لروسيا وجود وازن على الأرض السورية، مكنها من تعزيز وضع الجيش السوري ومساعدته في استعادة مساحات واسعة من البلاد. كما عززت موسكو ترسانة أوراقها في سورية، إذ باتت تتمتع بشراكة إستراتيجية مع إيران، واتفاق جوي مع إسرائيل، وهي تربط تطبيع علاقاتها مع تركيا المتلهفة بتعديل موقف الأخيرة تجاه الأزمة السورية ومكافحة الإرهاب. وأخيراً وليس آخراً، هو الاتفاق الروسي الأميركي الجديد الذي يفتح الباب أمام تعاون عسكري أقوى بين البلدين، ويمكن اعتبار أن الاتفاق رفع التعاون بين موسكو وواشنطن بشأن مكافحة الإرهاب في سورية، إلى المستوى التكتيكي. بعد كل ذلك ما الذي يدفع سيد الكرملين إلى الموافقة على العرض الوقح الذي عرضه الجبير؟
من جهة أخرى، كرر الجبير في المقابلة الاتهامات السعودية الموجهة إلى إيران بالوقوف وراء كل مشاكل المنطقة.
وتتسم علاقات السعودية بإيران بـ«العدائية» في حين انخفض مستوى علاقاتها مع تركيا بسبب موقفها من محاولة الانقلاب على أردوغان. وفي المقابل فإن العلاقات التركية الروسية مقبلة على تطورات إيجابية للغاية.
وبعد استئناف العلاقات الروسية التركية مؤخرا، شدد وزير الخارجية الروسي على أن إعادة تأسيس الثقة بين البلدين يحددها بشكل كبيرة، تطابق وجهات النظر حيال الأزمة السورية.
وإذ اعتبر لافروف أن القيادة التركية تدرك الآن ضرورة التعاون حول سورية بشفافية أكبر، أشار إلى أن موسكو تتوقع تقديم تركيا توضيحات بشأن دعم الإرهابيين في سورية، معرباً عن أمله في أن ترد أنقرة على الأسئلة المطروحة، وتتخذ الإجراءات اللازمة كي لا تستخدم أراضيها لدعم الإرهابيين والحرب في جارتها الجنوبية.