ما يقدّمه حكواتي دمشق .. تأصيل المكارم العربية… سيرة عنترة إلياذة العرب
| منير كيال
قبل أن يُطل علينا المذياع والتلفزيون والوسائل الأخرى التي كانت تملأ فراغ الناس، كان الرجال يختلفون بسهراتهم إلى المقهى للاستماع إلى ما يحكيه لهم الحكواتي، أو لمشاهدة بابة (مسرحية) من بابات مسرح كركوز وعيواظ المعروف بمسرح الظلّ.
وإذا كانت الجوانب الملحمية تمثل جانباً من الثقافة الشعبية، فإن نفسية الإنسان العربي جُبلت على حب البطولة المتحفزة للشجاعة والإقدام، فقد كان الإنسان بمجتمعنا يؤثر متابعة القصص الشعبية التي يقدمها الحكواتي، ومن ذلك سيرة عنترة العبسي والظاهر بيبرس والملك سيف بن ذي يزن وكذلك الزير سالم وتغريبة بني هلال، على ما كان يلمُّ بأبطال هذه السير من معاناة وعذابات وضنك، ذلك أن المتتبع لهذه السير يلحظ الدور الذي لعبته بالوجدان الشعبي حتى أواخر العقد الثالث من القرن العشرين، يوم كان الناس يبحثون عن قارئ رسالة بالحي بالسراج والفتيل كما يقولون.
وقد نشط القصاص الشعبي في صدر الإسلام والعصر الأموي، وكان ينقل للناس صور المغازي والفتوحات بأبدع حلّة وأروع الصور مما كان يتوافق مع الطباع العربية التي تقدّم الأخلاق الحميدة والفضائل على كل اعتبار، وكان مركز هذا القصاص الشعبي (الحكواتي) بتلك الحقبة ضمن المسجد أو الجامع عقب كل صلاة، ولمّا كثرت الأقاويل بشأنه أصبح يمارس نشاطه بالساحات العامة، والأماكن التي يجتمع بها الناس للاستماع إلى أقاصيص القصاص الشعبي عن أخبار الأبطال والفاتحين، ونوادر السلف، وغير ذلك من الأمور التي تثير اهتمام الناس وفضولهم. وكان الحكواتي فيما يرويه يُلبس شخوصه بما يرويه، حتى لكأنه منهم، وخلال ذلك كان يقوم بالحركات والمؤثرات الصوتية اللازمة لخلق الجو المناسب، ليضمن حسن التلقي من مستمعيه، حتى لكأنه يقوم مقام فرقة مسرحية حركة وصوتاً وتعبيراً.
فهو في ذلك بمنزلة حافظة شعبية لتلك السيّر، ومهندس لعواطف مستمعيه وفق مقتضيات أحداث السيرة ومصائر أبطالها وشخوصها.
وتراه يركز على بث مكارم الأخلاق والسمات العربية الأصيلة بجمهوره من محبّة وكرم وحمية ومروءة وحفظ للذمم ورعاية للجار وينسب ذلك إلى أبطال السيرة الذين يحالفهم الحظ على مناوئيهم الذين يتصفون بالكذب والبخل والخيانة والغدر والرياء وغير ذلك من المفاسد التي يتصف بها الأشرار ويحرص الناس على النأي عنها، ويستقبحون أي سلوك من هذا القبيل وكان الجمهور يسمع ويرى ويتفاعل مع الحكواتي بالتصفيق تارة وبكلمات الإطراء تارة أخرى، والتعاطف مع أبطال السيرة بأحيان كثيرة، حتى لكأنهم يعيشون مصائر أبطال السيرة. وكان الناس في اختلافهم إلى المقهى لسماع الحكواتي، يتخيرون الحكواتي الذي تتوافق براعته وسرعة بديهته وأسلوبه في الإلقاء والتعبير، وتصعيد حبكة الأحداث وحلها.. مع ما يتوافق مع مزاجهم، وهم في جلوسهم بالمقهى للاستماع إلى ما يقدمه الحكواتي، ينقسمون إلى فئة تؤيد البطل مناصرة له، وفئة تخالف ذلك الموقف، بل قد يبلغ الخلاف بين الفئتين إلى الملاسنة.
وكان الحكواتي يستغل هذه الظاهرة، فيصعّد الأحداث بالسيرة إلى أن يتوقف عند عقدة يكون بها البطل في حرج أو كربة، على أمل اللقاء بهم باليوم التالي، ليتابع لهم ما آل إليه البطل، فيهتاجون مطالبين الحكواتي بالاستمرار وتخليص البطل مما هو فيه.
وحدث أن الحكواتي توقف ذات مرة في موقف ترك فيه البطل بالسيرة يعاني مما هو فيه، وذلك من باب التشويق إلى اليوم التالي، فما هان على أنصار البطل ذلك، فكان أن قام أنصار البطل وقد هاجهم ذلك، لمطالبة الحكواتي بالعودة من بيته إلى المقهى ليفك بطلهم من المأزق الذي تركه فيه الحكواتي. وفي واقعة عرس عنترة بالسيرة شاهدت بأم عيني، ما قام به أنصار عنترة من تزيين للمقهى احتفاء بذلك العرس.
وإذا كان من المألوف وجود حكواتي في معظم مقاهي مدينة دمشق حتى العقد الرابع بل أوائل العقد الخامس من القرن العشرين، فقد كان الحكواتي معروفاً بالبلاد العربية، وأخذ بكل من هذه البلاد صورة متشابهة، مع اختلافات طفيفة، فقد كان في القطر المصري على سبيل المثال، يعمل بمصاحبة العزف على الربابة، وفي تونس: كان الحكواتي يجلس على سدّة عالية ومعه عصا طويلة يرد بها على المتخاصمين والمتناحرين حول أبطال السيرة، ليحول دون اقتتالهم بشأن مصائر أبطال السيرة، وليدافع عن نفسه بتلك العصا حين تقتضي وقائع السيرة أن ينتصر بطل على بطل.
وكان الحكواتي لمّا شاهدناه في مطلع العقد السادس من القرن العشرين في مقهى بمدينة اللاذقية قريباً من ساحة الشيخ ضاهر يجول بين الحضور وهو يروي السيرة، وبيده خيزرانة يلوّح بها إلى هنا وهناك حسبما تقتضي أحداث السيرة فيضرب بالعصا على هذه الطاولة (المنضدة) أو تلك، وقد جلس حول تلك المنضدة الرواد.. وكان يحكي أحداث السيرة بأسلوب المحاكاة والتقليد والتجسيد، فيعطي كل شخصية من شخوص السيرة صوتاً وحركة ونبرة خطاب خاصة بها.
وفي دمشق كان الحكواتي يتخذ مكانه بصدر المقهى على سدة عالية مجللة بالسجاد ومزينة بأصص نبات ورق الصالون (الزريعة) وهو يقص على رواده السيرة التي تميز بها، أما أحب السير إلى جمهور دمشق فكانت سيرة عنترة، وتحكي هذه السيرة أحداثاً يحتمل أنها وقعت في شبه جزيرة العرب على مدى خمسمئة عام، وهي تصور ثأر القبائل العربية قبل الإسلام. وتعد سجلاً حافلاً لأحداث يستطيع المرء من خلالها التعرف إلى القبائل التي ورد ذكرها بالسيرة، وعاداتها وتقاليدها في الحرب، وتقسيم الغنائم، وحظ الحر وحظ العبد منها… فضلاً عما تقدمه السيرة من بطولات عنترة وأخلاقه وعلاقاته مع قبيلته وعذاله، واعتباره مثلاً للإقدام والفروسية والتضحية.. وقد لاقت هذه السيرة انتشاراً كبيراً في الوطن العربي وخارجه. وقد حفظ العامة من الناس أحداث هذه السيرة، فكانت قيمها الاجتماعية والأخلاقية كبيرة بكل بيئة عربية، فكان أن اعتبرها المستشرقون إلياذة العرب.
من هذه السير سيرة الملك الظاهر، وهي سيرة محببة لدى الجمهور من رواد الحكواتي تتقصى هذه السيرة أخبار الملك الظاهر بيبرس، وتجعل منه محوراً للأحداث المتعلقة بالدولة الأيوبية وعملها بل أيضاً دورها بتوحيد الصفوف، للوقوف بوجه الغزو الخارجي لبلاد العرب، كما تتحدث عن الفساد الداخلي بالمجتمع وهي تتوسع في قص أخبار الملك الصالح أيوب الذي استقدم الظاهر بيبرس. وتكثر بهذه السيرة الوقائع والأحداث التي تزدحم بالرجال والنساء.
كما كانت سيرة الملك سيف بن ذي يزن ترسم الوحدة العربية ممثلة بالبطل اليمني الملك سيف الذي حارب الأحباش لتحرير اليمن، ويرجع نشوء هذه السيرة إلى القرن الخامس عشر للميلاد، رغم أن أحداثها قبل ظهور الإسلام.
وفي الختام، لئن استطاع الحكواتي حتى أواسط القرن العشرين أن يعبر عن البطولة وينادي بالأخلاقيات، ويأتي بالأمثال والحكم والأشعار والأزجال، وأن يكون مصدراً مهماً من مصادر الثقافة الشعبية بين أناس لا يقرؤون ولا يكتبون، فقد أصبح في أيامنا هذه ونحن في مطلع الألفية الثالثة، وبعد انتشار وسائل الاتصال المقروءة والمرئية والمسموعة، من نشوة الماضي. ورحم اللـه أيام زمان.