ثقافة وفن

الشعر صورة الجيل الذي يبدعه…هل يطلب من الشعراء أن يستمروا في الاتباع؟!

إسماعيل مروة: 

النزعة الماضوية تسيطر على كل شيء فينا، ولا يقتصر الأمر على قضايا الشرع واللغة، لذلك يرفض بعضهم أي خروج عن الماضي الموروث، ويهلل لكل محاولة تقليد اتباعي لا تحمل أي نوع من الإبداع!
وكذلك تسير إلى جنب النزعة الماضوية النزعة الرافضة المتفلتة من كل قيد أو أصل يجب أن نعرفه وإن لم نتبعه، فصانع الموزاييك يبدع في إنتاجه مع حفاظه على مفرداته الأساسية.
وكما أن القارئ لا يستسيغ اليوم عودة أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، وحتى لا يستسيغ عودة المتنبي ونزار قباني لاختلاف الشرط والمزاج العام، كذلك يرفض أن يحمل لقب الشاعرية من لا يعرف أساسيات العروض والأوزان والشعر ورحلته، فليعرف أحدنا دقائق الشعر، وليخرج ليبدع، ويصنع ما يشاء..

الشعر والشباب
تغيرت الهموم، كما هو مؤكد، بين شباب اليوم وشباب الأمس، بين القضايا التي واجهت شعراء الأمس البعيد أو القريب، والقضايا التي تشغل شبابنا اليوم، ومن الظلم أن نحكم على نص اليوم كما نحكم على نص الأمس، فالذائقة اختلفت كما الهموم اختلفت، وفي كل يوم يصدر ديوان لشاعر من الشعراء الشباب، سواء كان النشر لدى جهات عامة، أو بتبنٍ من دور نشر خاصة، أو بجهد خاص من الشاعر، وبعدد محدود من النسخ، وخاصة بعد انتشار خدمة التصوير التي تلغي تكاليف الأفلام والطباعة، ويؤلم أن نجد الشاعر يبذل كل هذا الجهد ولا يجد قارئاً لنصه، أو لا يجد متابعاً، وكأن النص يدخل ويخرج من دون أن يحرك ساكناً، والحق يقال إن بعض هذه النصوص والدواوين تحمل مؤشرات شعرية عالية، وكذلك يمكن أن تعطي فكرة مناسبة عن الجيل وهمومه الحياتية والسياسية والاجتماعية والفكرية، وأذهب أبعد من ذلك عندما أقول: يمكن أن تعطي فكرة عن المستويات الفكرية والإبداعية، وتسهم في تقديم دراسات بنيوية اجتماعية وتشريحية مجتمعية مميزة.
ظهرت تجارب مفردة لشعراء وشاعرات، ويلاحظ وجود كم لا بأس به من الشاعرات، وتصل نسبة الشاعرات إلى نصف المجموعات الصادرة، وهناك جهات خاصة وعامة اهتمت بالشعر الشاب الحديث فأسست لمشروع قد يستمر وقد لا يستمر، ومن هذه المشروعات سلسلة (نصوص شعرية سورية) التي وضع أسسها الشاعر سامي أحمد، وصدرت عنها ثلاث مجموعات تحمل شعار دار التكوين وهذه النصوص «من الرواية السرية لحياتي، بائع الكستناء الأدرد، قليل منك كثير من الملح» للشعراء عبد الله ونوس، فراس الضمّان، رشا حبّال بالتتابع، فماذا حملت هذه السلسلة في إصداراتها الأولى؟

التسجيل الحي
أهم ما وجدته في مجموعات الشعراء الشباب، ومنها هذه المجموعات ابتعادها عن مفهوم الشعر المتوارث، فهي لا تحفل بالغنائية، ولا تريد شعراً خطابياً منبرياً، ولا تقدم شعراً يحوي كنوزاً من اللغة التي تحتاج إلى شرح ودراسة، وفي الشعر الجديد نجد القصيدة تمشي جنباً إلى جنب مع مبدعها، فهي صديقة طريقه وطاولته وكأسه وسريره، هي المعبر عن نزواته وهفواته وحياته، وإن كان بعضهم يجبن عن إظهار روحه، فهو يلبس ذلك للقصيدة التي تسير إلى جنبه عارية من كل تجميل أو تجمّل، وهذا ما أفهمه من «الرواية السرية لحياتي» لونوس، والشاعر ينطلق من التسجيل ليؤكد البوح، وأن لحياته سراً وعلناً، والشعر يقدم رواية للجانب السري، لكنه شاء أن يجعلها معلنة بصوغها ونشرها وبين امرأتين: ليست له، وليس لها يقول:
فرشت لي قبلاً
إذ لا فم عندي
وغدت سهلاً يشبك بالغيم أصابعه
إذ ساقاي كماء المستنقع
وأنا الأمي
لا أشتمّ الحبر
هذه ليس لها، وماذا عن التي ليست له؟
ماء أسكبه فوق الرمل
ولهاثي يتأبط ريحاً
ألفّ بحلمي امرأة من حجر
تخبو في ثلج فراشي
أكتب بالملح قصائد لا يقرؤها إلا الماء
من المقطعين يلمح الفرق بين المرأتين، وفي صورة مجازية حياتية يقول:
على ناصية الليل
أنام مقروراً
الصباح كلب ضال
يلعقني بلسانه
فأصحو…!
والضمّان في بائع الكستناء يقول تحت عناوين فارغة إلا من النقاط:
لا أمل النظر إلى السماء
لا أملّ أبداً
فقط
ارفعوا أعلامكم عني
أنا
أنا القبر الوحيد
أعلى التلة
وفي وقفة منطقية واقعية تبتعد عن الافتخار الأجوف يقول:
لن أموت واقفاً كالأشجار
بل ممدداً
بين نهدين غريبين
لن أقف شامخاً
أمام العلم الذي يرفرف كل صباح
بل هائماً
مترنحاً…
هكذا ينظر الشاعر الشاب إلى حياته المتسكعة الممضة، التي تخرج عن عبارات جوفاء تتعلق بالإباء والشموخ، لأن الواقع يختلف اختلافاً جذرياً، وهذا فرق جوهري بين الشعر الغنائي المفتخر والشعر الواقعي.
ورشا الحبال تخاطب الموت في ورقته الأخيرة:
أيها الموت لا تنسَ
تبرع بي للعابرين
دسني في جيوب قهرهم
وامنح قلبي لعاطل عن الحب
سيجد به ما يكفي للدهشة
قبل أن يلحقني به
وفي صورة جميلة تقول:
كنت سأحدثك عن الانتماء إليك
وكأني كل قبيلتك
لكن الرصاص في الخارج
مزّق خرائط الفكرة
فلجأت
للارتجال
شعر طازج يعبر عن الشباب ومراحلهم وهمومهم، وإن كان ثمة من ملاحظة، فهي فنية في التناول، فإن خرجنا عن قوانين الشعر وأوزانه وطرائقه، يحسن بنا أن نتعامل مع الشعر والنص على أنه باق، وهذا يفترض بنا أن نعيد النظر في الكلمة والتعبير لنقدم نصاً يصلح لأيام قادمة، للغرابة دلالتها، وللغة وظيفتها التي تنير النص، وفي كثير من المقاطع ولا يتسع المجال لذكرها نجد كلاماً عادياً مرتجلاً يصلح فواصل فيسبوكية، ولكنها شاءت أن تكون داخل النص الشعري، فلننظر إلى الشعر الجديد بإنصاف وليبذل الشعراء الجدد جهداً أكثر في احتراف النص الشعري قبل تطويبه!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن