الإسلام والحكمة
| د. نبيل طعمة
والحَكَم والحَكِيم والحاكم والمحكوم له والمحكوم عليه (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) آية كريمة، لنتأمل أن الكتاب المكنون خاطب المسلمين بـ«أفلا» خمساً وأربعين مرة، والتي معناها الغياب والاستقرار، فإن لم يفعلوا فهم كالنجم الغائب في تأمل أبرام، فلما أفل قال لا أحب الآفلين، لأنه خمل بعد اشتهار، وعَتُم بعد بريق وإبهار وومض، أفل حالة من الضعف تتبع النمو، أو العظمة، أو النجاح، أليس بين كامل عمق فكر المكنون الذي خاطب المسلمين بـ: أفلا تعقلون، أفلا يتدبرون، أفلا يتوبون، أفلا تتفكرون، أفلا تتذكرون، أفلا تتقون، أفلا يؤمنون، أفلا يرون، أفلا تسمعون، أفلا تبصرون، أفلا تشكرون، أفلا يعلم، الوحيدة التي لم تتكرر، أمة امتلكت مدينة العلم من رسولها إلى أمير بابها، امتلأت بالحكمة والموعظة الحسنة بفضل اقتصادييها وساستها ومثقفيها الذين جمعوا قرآنها، بغاية الحفاظ على هذا الموروث الأمة، وسادت حيناً من الدهر، ومن ثم قبلت التعلق بالانهيار بدلاً من أن تتعلق بالحكمة، والحكمة عند الآخر المحيط بها هي الفلسفة التي لا يمكن لها أن تظهر إلا من خلال تراكم المعرفة والفهم والعلم والإنسان المؤمن بالحياة، وأقصد فيه الخلاصة البشرية، حيث إن تعريف الإنسان بأنه كائن حي مفكر، ولذلك أطلق عليه الحكيم والفيلسوف، كيف بالمفسر الماضوي يحارب الحكمة؛ أي الفلسفة، ويقاتلها شر قتال، ليمنع المعرفة والعلم والجمال، وأكثر من ذلك يرخي عليها بظلال التحريم.
مدخل أردت الولوج من بوابته باحثاً عن تلك العدائية الخفية التي أنشأها أصحاب تفسير الحضور الإسلامي للفلسفة والتصوف، فإذا كان الله في الإنسان حل وحال، فما حال الإنسان المسلم الذي سكنه ذلك الماضوي، ولم يقدر على حذف ما سكن عقله من سلبيات الماضي المتشدد وغير المتوافق مع العصر أو توسعة ذاكرته، لتقبل ما جرى ويجري في محيطه القريب والبعيد، أفكار تحتاج من جميعنا التوافق عندها، والبحث فيما وسِمْنا فيه، وغدونا عليه، والأسئلة تفرض حضورها، والتي بها الإشارة إلى أين نحن؟ ومن نحن بعد أن انكشف المستور، وفتحت أبواب الاطلاع على العالم برمته، وغدا الفضاء قريباً جداً منا نتاج تحوُّل هذا الكوكب الحي إلى قرية صغيرة، وحينما نقول: إن الحكمة هي الفلسفة والعكس صحيح، نسأل: لماذا لا نشجع العلاقة معها، ونفتح لها الأبواب؟ أليست هي جوهر العلوم، ومنها استنبطت صنوفه وأدبياته وأخلاق الحياة، أولم يؤدِّ التأمل في الكواكب والنجوم وظهورها وأفولها إلى معرفة المكون الكلي وسبل الحياة ونظمها وانتظامها؟ كيف بنا لا نتفكر في الآية الكريمة: (مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) لأن روح الله موزعة ضمن الأنفس البشرية من مبدأ (فنفخنا فيه من روحنا)، فإذا قتل إنسان إنساناً مؤمناً، فإنه قتل روح الله، والإنسان صورة الله وشكله.
الله أيها الناس ليس في الجحيم، ولا هو أنكر ونكير، وغير موجود في عذابات القبور الافتراضية، الله أيها الناس مع الحياة، وفيها مع الإبداع والاختراع، والحبور والثبور، الله موجود في الصدور، بين الثمار والزهور والورود، لذلك وزعت حكمته الكونية كما روحه الكلية موزعة بين أنهار إنسانه؛ الماء والعسل واللبن والخمر، لا في الكراهية والفجور، الله أيها الناس في مخلوقه؛ منتجه الكلي، وأهمه الذكر والأنثى.
هي هكذا البشرية جمعاء، التقط فهمها بعضهم، فغدوا بها حكماء، واستطاعوا من خلالها امتلاك المعرفة التي ولدت السكينة والهدوء من أجل الحفاظ عليها وزيادتها، فكان منهم تقديم التسامح والحوار عند الاختلاف، واعتمدوا أسساً قوامها عدم التشبث بالرأي، لأن الخطيئة لا تجابه بالخطيئة، وعندما نؤمن برب الأرباب، وأن لكلٍّ من الآخر رباً يؤمن به، كما يؤمن المسلم، وأنه توزع في الكل المؤمن، ففهمه الحكماء بحكمتهم، وبقي العامة يتصارعون عليه، ما أنشأ صدامات حدثت، وما زالت تحدث في العقل الفردي المسؤول الأول والأخير عن ضياع الشخصية الإسلامية، فأخذ يدمر وجوده من خلال تدمير هويته الثقافية والاجتماعية والدينية وحتى الوطنية، وقاد كل ذلك إلى صراع حضارات وديانات وطوائف ومذاهب ناسفاً بذلك الوعي التاريخي، ومحولاً إنسانه إلى عملية تهجين كبرى، لم يشهد التاريخ مثيلاً لها، لنتأمل في الممارسات الدينية السائدة، وكيف أنها حولت اللغة والثقافة إلى أدوات تفكيك بدلاً من عمليات التكامل والتجانس محدثاً التهذيب والتألق والترتيب.
كيف بنا نستخدم إرادتنا الدينية على الآخرين، ونطلق عليها أنها إرادة الله ومشيئته؟ كيف بنا نبني في الناس كافة لغة الجهاد التي تنتهي بتفجير النفس التي يسكنها الله بغاية قتلهم أو قطع رؤوسهم أو حرقهم أحياء بدلاً من أن نأخذ بهم إلى فهم علم الجمال، وأنَّ الله جميل يحب الجمال الذي سكنه في الموسيقا والعمارة والرسم والنحت والمسرح والرقص والسينما، في الأدب والفن، في الفهم والمعرفة والعلم، وكل تلك أدوات الحكمة الكونية، هل عرفنا الله أو حاولنا التعرف عليه جوهراً لا مظهراً؟ أليس الله هو الحب والسلام المؤمن المهيمن؟ أليس الجمال ومفرداته مضادات التطرف والعنصرية والقبلية والطائفية والقتل والتدمير؟ أولم يكن الأنبياء من البشر، وأجمعوا على أنهم بشر مثلنا.
لماذا ذكر الكتاب المكنون (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) ولم يذكر المتاجرين به المعززين للغة الخوف، ألم تبنَ المعابد – من دون استثناء كنيس أو كنيسة أو مسجد- على شاكلة الإنسان، الدخول بالقدمين وصولاً إلى المحراب أو المذبح ضمن عملية أرثوذكسية وتعني الاستقامة، أو الصراط المستقيم، وأن الإنسان هو المعبد الأول، وفيه يجري التعبد، ومن دونه يتحول إلى تاجر عبادة، لأن الإنسان هو البناء الأخير الذي بناه المكون في اليوم السادس، ثم استراح في اليوم السابع، والتكوين قام على السبعة، والسبعة تكوين فلسفي مجسد في علم الروح، والروح حكمة أحكم الحاكمين، فإذا حاربنا الحكمة حاربنا الله، وفقدنا وجودنا الإنساني، وتحولنا إلى بشر، والبشر بدء شرٍّ وشراهة…. وللحديث صلة.