قضايا وآراء

لعبة الفوضى المنظمة.. إلى أين؟..

| القاهرة – فارس رياض الجيرودي 

جاء انقلاب تركيا الأخير وما تلاه من تصفية حساب داخلية واسعة أطلقتها سلطة أردوغان داخل الجيش التركي وفي مؤسسات الدولة الأخرى، لتعطينا دليلاً آخر على أن خيوط التحكم بمجريات الأحداث في منطقتنا بدأت تفلت من يد الغرب أكثر فأكثر، فآخر ما كانت تتمناه دوائر صنع القرار الغربية أن تجتاح حالة السيولة وعدم الاستقرار التي أطلقتها في المنطقة بلداً أساسياً في حلف الناتو، يحتوي على أحد أكبر مخازن الأسلحة النووية الأميركية في العالم، ويعتبره المخططون الإستراتيجيون الغربيون حائط صد أمامياً في وجه الأخطار القادمة من جهة الشرق، فالولايات المتحدة كانت تمسك بتركيا بوساطة المؤسسة العسكرية، وبذلك تم تأمين استقرار هذا البلد تحت نفوذ الناتو طوال العقود الطويلة الماضية، لذا أن أكثر ما يلفت النظر في الحدث التركي ليس إخفاق الانقلاب بحد ذاته رغم أنه يشكل حدثاً استثنائياً في تاريخ تركيا (أول انقلاب عسكري فاشل)، بل يستدعي الملاحظة أكثر اعتماد السلطة الأردوغانية في ردها على الانقلابيين على ميليشيات مدنية وشبه مدنية ذات ايديولوجيا إخوانية تم بناؤها خلال 13 سنة من حكم أردوغان وذلك تحت مسمى شركات أمنية ومخابرات وشرطة وجندرمة… إلخ، ورغم أن القسم الأكبر من المؤسسة العسكرية لم يتورط في الانقلاب، إلا أن الجيش التركي بأكمله تلقى على يد هذه الميليشيات ضربة انتقامية قاسية، من خلال الإهانة البالغة التي تعرض لها الجنود والضباط الأتراك، الذين ذبح بعضهم وقطعت أوصاله في شوارع اسطنبول، وسيق بعضهم الآخر إلى المعتقلات عراة، وذلك في احتقار فاضح لأبسط القواعد الوطنية التي تحترمها كل دول العالم، والتي تحرم إهانة المؤسسة العسكرية باعتبارها العمود الفقري الذي تقوم عليه الدولة الحديثة، والمؤسسة التي تحمي مؤسسات الدولة الأخرى، لذلك جرت العادة أن توكل القوانين مهمة اعتقال العسكريين، لعسكريين آخرين تحت مسمى شرطة عسكرية، أضف إلى ما سبق إقالة 100 ضابط يشكلون ما نسبته 30% من الرتب العليا في الجيش التركي، يحتاج تعويض خبراتهم عملاً دؤوباً لسنوات طويلة كما يقول الخبراء.
إن عجز سلطة أردوغان طوال 13 سنة عن إيجاد أي متكأ حقيقي لها داخل مؤسسة الجيش لا يشكل مفاجأة كبيرة، باعتبار أن هذه المؤسسة تمثل النقيض الموضوعي لإيديولوجيا الإخوان الطائفية العنصرية اللاوطنية، وبسبب هذا تختزن الأدبيات الأخوانية الكلاسيكية عداءً كبيراً للجيوش أو ما يسمونه العسكر ليس في تركيا فقط، بل في العالم الإسلامي كله، فالجيوش الوطنية تقوم على وضع الأفراد من جميع الأطياف المشكلة للشعب في موقف الاستعداد الدائم لمواجهة خطر الموت دفاعاً عن الوطن، ما يؤدي أوتوماتيكياً لصهرهم على اختلاف انتماءاتهم الطائفية والإثنية في بوتقة وطنية واحدة، لذلك ظلت المؤسسة العسكرية الضامن الحقيقي في المجتمعات الحديثة لحفظ استقرار باقي مؤسسات الدولة، في حين أثبتت التجربة أن الميليشيات الإخوانية والسلفية بإيديولوجيتها العنصرية المتخلفة أعجز من أن تستطيع بناء دول مستقرة.
فإذا ما أضفنا إلى ما سبق ملاحظة العلاقات العميقة التي تربط أجهزة أردوغان المخابراتية والشرطية وشركاته الأمنية بالتنظيمات الإرهابية في سورية، وعلى رأسها داعش والنصرة (فرع القاعدة في بلاد الشام)، تلك العلاقة التي نسجت خلال السنوات الخمس الماضية مع تولي تلك الأجهزة لملف رعاية جهود إسقاط الدولة الوطنية السورية، وما يمكن أن تكون تلك التنظيمات قد أحرزته من اختراقات في جسم أجهزة أردوغان الأمنية نتيجة للتقارب العقائدي بين الطرفين، نستنتج عمق الأزمة التي وضع الغرب نفسه فيها عندما قرر تحمل مخاطرة استخدام الحالة الإخوانية السلفية في وجه القيادة السورية أملاً بإسقاطها وباستنزاف محور المقاومة، إذ إن ما اعتبره الغرب مجرد أعراض جانبية لاستخدام الدواء الإخواني، يمكن معالجتها لاحقاً بعد التخلص من الدولة السورية، اتضح أنه تحول إلى سم زعاف يزداد خطره على الأمن العالمي مع مرور كل يوم تصر فيه الدول الغربية على المكابرة والتباطؤ في إنهاء لعبة استخدام الإرهاب، وذلك عبر الطريق الوحيد المعروف جيداً بالنسبة لها والذي تصر على تجاهله، وهو طريق الضغط على الأنظمة الإقليمية التابعة لها لوقف ضخ الدعم في شرايين التنظيمات الإرهابية في سورية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن