علم الآثار، فصل حضاري متجدد
| د. علي القيّم
كثيرة هي الآراء والتعريفات التي قيلت في تعريف علم الآثار، وقد اختلف مفهوم هذا العلم من فترة إلى أخرى، ومن عالم إلى آخر ومن مدرسة علمية إلى أخرى، ومن قاموس إلى آخر… دعونا نبحث عن مادة «الآثار- الأركيولوجية» في قاموس من القواميس العالمية، فنجد هذا يعرف: «علم الأشياء القديمة، وخاصة الفنون والروائع العتيقة»، ونجد قاموساً آخر يقول: «لفظة أركيولوجية، من اليونانية، وهي علم الروائع العتيقة»، ولكن معنى هذه اللفظة ما لبث مع تطور العلوم والمعارف أن اتسع اتساعاً كبيراً، لتشمل التنقيب والكشف الأثري ودراسة الطبقات الأرضية وماضي البشر، وترميم الأشياء، والأوابد والمتاحف والصناعات التقليدية والكتابات والنحت والرسم والفنون الدقيقة… وقد ظل هذا العلم إغريقياً ورومانياً، في أهدافه وغاياته، حتى القرن التاسع عشر، وكان لارتياد مصر وبلاد الرافدين وبلاد الشام من الرحالة والباحثين والمغامرين دوافع مهمة لكشف غوامض مجهولة لم تكن معروفة سابقاً ما دفعهم إلى نبش دفائن الدور والقصور والمدن المطمورة في الأرض أو المنتصبة فوقها، وقد نالت منها السنون كلّ منال.
في القرن التاسع عشر قامت عمليات ارتياد المناطق الأثرية القديمة على البحث والدراسة وتحديد الخصائص، واستخلاص النتائج والمعلومات اللغوية والتاريخية والجغرافية والاجتماعية والسياسية، وبذلك تمكن علم الآثار من مساعدة علم التاريخ لفهم المسارات الحضارية والإنسانية، وتصحيح ما اعتبر أحياناً مسلمات بنيت عليها نتائج خطرة، وأفضل مثل على ذلك ما أحدثته مكتشفات ماري (تل الحريري) الواقع قرب بلدة البوكمال على الفرات الأوسط، الذي قدّمت لنا وثائقه الكتابية البالغ عددها نحو 25 ألف رقيم مسماري يعود تاريخها إلى الألفين الثالث والثاني قبل الميلاد، والتي اعتبرت في حينها أشبه ما تكون بوثائق وزارة الخارجية، حيث ظهر في ترجماتها فجأة إلى النور أشخاص من لحم ودم، بعضهم غير معروف، وآخرون على العكس، مشهورون، مثل ملك بابل حمورابي، صاحب الشريعة والقوانين، والشخصية الحافلة بالمتناقضات، فهو رجل قانون مشرّع، ولكنه في الوقت نفسه- سياسي ماكر ووصولي، بل عسكري ودبلوماسي ومخطط، ونجد في دراسة هذه الرُّقم التي وجدت في بقايا القصر الملكي النادر الوجود، في العالم القديم، ما يشير إلى وجود رجالات عظام يكتسبون أهمية كبيرة في تاريخ بلادهم مثل: الملك «زيميري ليم» ملك ماري، وزوجه الملكة «شيبتو»، و«شمشي حدد» ملك آشور، وكان علماء الآثار يعتقدون أنهم متباعدون، فتبين أنهم عاشوا في فترة زمنية متقاربة، وبفضل هذه المكتشفات الأثرية تمّ تسليط النور الكامل على ماضٍ، كنّا نجهل ما هو أساسي فيه، وأصبحنا الآن نرسم لوحة رائعة حيّة، عن حياة الناس العاديين وممارساتهم التجارية والزراعية وعاداتهم وآدابهم ومعتقداتهم وأساطيرهم.
في سورية استطاع علماء الآثار أن يقدروا عدد المواقع والأوابد الأثرية بنحو 7000 موقع أثري، لم نتعرف إلى هوية ومكنونات الحضارة في طبقاتها ومعالمها إلا في الحدود الدنيا، مع العلم أن جمالياتها وأنواعها لا تخفى على عالم وباحث، سواء كانت قلاعاً أو حصوناً أو قصوراً أو منشآت سكنية أو تجارية أو دينية، ومن خلال البحث والكشف والدراسة في القليل منها تبين أنها تشكل الذخر الإنساني والحضاري للبشرية جمعاء، وليس لسورية فقط، لقد تطور بفضلها علم الآثار وتبين أن لكل أثر سوري طابعه الخاص ونوعه ومميزاته وتاريخه، وهذا ما فتح الآفاق واسعة أمام علماء الآثار لتوسع المصادر التاريخية والحضارية والفنية التي يمكن الرجوع إليها في الفنون والمعتقدات والكتابات وأسلوب العمارة وأشكال النحت والزخرفة والصناعات والحرف اليدوية التقليدية.
علم الآثار في سورية حكاية طويلة… ومسيرة عطاء وتجدد واكتشافات مذهلة، وابتكارات لا حدود لها.. إنه عطاء الإنسان السوري عبر التاريخ، بكل ما فيه من ألق وحيوية وتجدد واستمرارية وتطور وإشعاع حضاري.