جليّة.. كما لم تكن يوماً
| عبد المنعم علي عيسى
لم تكن السياسة السعودية على امتداد تاريخها منذ عام 1932م واضحة وجليّة كما كانت عليه خلال الأسبوع المنصرم الأخير.
المكان: العاصمة البلجيكية بروكسل
الزمان: 18-22 تموز 2016
الحدث: انعقاد الدورة الـ25 للحوار الاستراتيجي الأوروبي- الخليجي، وتحديداً منه المؤتمر الصحفي الذي عقده عادل الجبير 21/7/2006 ومن ثم حديثه إلى صحيفة، بوليتكور 22/7/2016 تحدث الجبير في الكثير من القضايا ما يهمنا منها هو ذلك الجزء الذي يتعلق بالأزمة السورية واحتمالات إيجاد حلول سياسية لها.
في حديث الجبير لا يبدو أن هناك أي تغير يذكر في الموقف السعودي حيال دمشق على الرغم من رزمة المتغيرات جلّها إقليمية على هذا الصعيد ولربما يجوز القول: إن التصعيد السعودي الأخير قد جاء رداً على تلك المتغيرات في جانب من جوانبه، يقول الجبير: «حينما كان القتال جارياً في البوسنة كان يقال حينها أن لا حل عسكرياً ولا تدخل خارجياً وأن الحل سياسي، ثم تدخل العالم» وللإضاءة على ما يقصده الجبير نقول: إن الصراع في البوسنة والهرسك كان قد تفجر في آذار من عام 1992 في أعقاب سقوط ما كان يسمى منظومة الدول الاشتراكية 1989 ثم تفكك يوغسلافيا وقد استمر(ذلك الصراع) إلى تشرين الثاني 1995 عندما حسم تدخل حلف الناتو الصراع ثم فرض اتفاقية دايتون (21/12/1995) على أطراف الصراع، والجبير هنا يقصد بأن ما من أحد يستطيع التكهن بما يكون غداً وأن الرهان السعودي كبير على إمكان تكرر السيناريو «البوسني» في سورية، وفي السياق يشير الجبير إلى إمكان حدوث تغير جذري في الموقف الروسي انطلاقاً من أن «الاستراتيجية الروسية تتحلى بالمنطق وهو أمر في مصلحتنا» بمعنى أن الرياض ترى أن الروس سوف يفضلون في النهاية الإغراءات الاقتصادية الخليجية المعروضة عليهم على البقاء في الخندق الذي يدافعون فيه عن دمشق يضيف الجبير في حديثه لمجلة «بولتيكو» إن السعودية قادرة على أن تضمن للروس مواقع نفوذ في المنطقة تفوق تلك التي كانوا يتمتعون بها زمن الاتحاد السوفييتي، هذا العرض المقدم على هذه الشاكلة -وبغض النظر إذا ما كانت الرياض قادرة عليه أم لا- يقرأ على الأرجح بأن الرياض تشم رائحة طبخة أميركية روسية في الشأن السوري باتت وشيكة النضج ولذا فإنها تعمل على إيقافها بأي ثمن كان لأنها كما يبدو لا تناسب المصالح السعودية.
يقول الجبير إن إيران لا تزال العدو الأول وما يعني بأن لا قرار سعودياً بوقف حروب الوكالة مع طهران على امتداد جبهات التماس المباشر وغير المباشر منها، أما العلاقة مع الغرب ففيها يقول «الغرب لا قدرة له على الاستغناء عن السعودية» ويضيف: لقد استطعنا أن نحقق سوية انتصارات عدة فقد دحرنا الراديكالية العربية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي والأمر نفسه تكرر في السبعينيات والثمانينيات من ذاك القرن عندما دحرنا الشيوعية العالمية.
الكلام جد خطر صحيح أنه معروف بل موثق وفي أيدينا العديد من الوثائق التي تؤكده ومنها على سبيل المثال شهادة العقيد عبد الكريم النحلاوي قائد الانفصال في 28 أيلول 1961 التي عرضها برنامج شاهد على العصر في قناة الجزيرة على امتداد عام 2010 وفيه قال النحلاوي إن الانقلاب كان مدعوماً وممولاً سعودياً برعاية أميركية، بل بعض الوثائق يصل إلى تأكيد التورط السعودي في التحريض على حرب حزيران 1967 فقد أورد الكاتب حمدان حمدان في كتابه (عقود من الخيبات) وثيقة صادرة عن مجلس الوزراء السعودي برقم (342) تاريخ 27/12/1966 وهي موجهة من الملك السعودي فيصل (رئيس المجلس والملك في آن) إلى الرئيس الأميركي جونسون يطالبه فيها بالضغط على إسرائيل للقيام بضربات عسكرية ساحقة ضد نظامي دمشق والقاهرة تضمن إسقاطهما والعمل على احتلال أراض من كلتا الجغرافيتين المصرية والسورية كورقة ضاغطة على الأنظمة التي ستحل محل الأنظمة الساقطة ليختم الملك السعودي رسالته بالقول: فيما عدا ذلك وإن لم يحدث ما طلبناه فلسوف يأتي عام 1970 ولن تجدوا (يقصد الأميركان) حلفاءكم آل سعود وهم متربعون على العرش السعودي.
كل ذلك معروف إلا أن للاعتراف وقعاً خاصاً وللتفاخر فيه وقع خاص جداً فهو مؤشر إلى تلك الدرجة العالية من التقهقر التي بلغتها الأحزاب والحركات ذات المنهج القومي العروبي والتي يمكن رصدها بشكل دقيق عبر القول: هل كان بإمكان عادل الجبير (أو من كان في مكانه) أن يقول ما قاله في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي؟