أم الحياة
| حسن م. يوسف
أعترف أن إعجابي بالشجرة يشبهها، فهو لم يتوقف يوماً عن النمو. فمنذ أن وعيت على الدنيا يندر أن يمر يوم لا أفكر فيه بهذه المعجزة الصامتة التي لا تكف عن مداواة الجراح والآثام التي يقترفها الإنسان بحق أمه الطبيعة، فالشجرة تمتص الأشياء التي أفسدها البشر وتعيد تأهيلها كي تدخل مجدداً في خدمة الحياة.
أي معجزة تجترحها الشجرة بصمت، حينما تحول طعم التراب إلى أجاص، أو دراق، أو كرز! من أين تأتي الدالية المغروسة في التراب بحلاوة العنب الجارحة هذه؟ كيف تترجم شجرة التين طعم التراب المقبض المز إلى ثمرة مهندسة بإحكام كما لو أنها كون صغير في قلبه بذار أكوان تحلم بأكوان؟ من أين تأتي الشجرة بكل هذه الحكمة كي تمتص ثاني أوكسيد الكربون الذي ينفثه الإنسان في وجه الطبيعة، وتطرح الأكسجين الذي يحتاج الإنسان إليه كي يعيش؟
مؤخراً بدأت أفكر بوجوه الشبه العديد بين الشجرة والمرأة ودور كل منهما في صنع الحياة وضمان استمرارها. والحق أن درجة الشبه بينهما لم تكف يوماً عن إدهاشي. ما أود أن أحدثكم عنه اليوم هو تجربة فريدة تصل الأنثى بالشجرة، ينفذها منذ عقود أهالي قرية تدعى (ببلانتري) في ولاية (راجاستان) الهندية.
من المعروف أن جل سكان هذا العالم على اختلاف ثقافاتهم يفضلون أن يرزقوا بالذكور أكثر من الإناث. إلا أن أهالي قرية (ببلانتري) لا يرحبون بولادة البنات وحسب، بل إنهم يحتفلون بذلك عبر تقليد طريف لا يعود بالفائدة عليهم وحسب بل يعزز خضرة كوكب الأرض أيضاً.
فكلما ولدت طفلة في قرية ببلانتري يقوم الأهالي بزرع مئة وإحدى عشرة شجرة مثمرة احتفالاً بهذه المناسبة. وهذا تقليد رائع وفريد في مناصرة المرأة والبيئة في آن معاً، وكلي أمل أن يلهم هذا التقليد قرى الولايات الهندية الأخرى وبقية قرى العالم، لأن هذا من شأنه أن يتصدى لخطر التصحر الذي يزداد يوماً عن يوم.
أجمل ما في هذا التقليد الرائع هو أنه يعبر عن وعي بيئي متقدم بحيث لا تكون الزيادة في عدد السكان على حساب البيئة. كما أنه يضمن بالمعنى الحرفي للكلمة أن يكون مستقبل الأجيال الجديدة أكثر خضرة.
لا يكتفي أهالي قرية ببلانتري، بأن يقوموا بشكل جماعي، بتأمين وزرع مئة وإحدى عشرة غرسة من الأشجار المثمرة على شرف كل طفلة تولد حديثاً في قريتهم وحسب بل يتبرعون مجتمعين بمبلغ 21000 روبية، على أن تساهم أسرة الطفلة الوليدة بـعشرة آلاف روبية أخرى، ثم يقومون بوضع هذا المبلغ كوديعة ثابتة باسم الفتاة تتقاضاها بعد عشرين عاماً.
كما يوقع والد الطفلة وأمها على سند خطي لدى المدعي العام يتعهدان فيه أن تتلقى ابنتهما التعليم المناسب، وألا يتم تزويجها إلا بعد أن تبلغ السن القانونية.
الطريف في الأمر هو أن أهالي قرية ببلانتري يهتمون جماعياً بالأشجار التي يزرعونها على شرف الطفلة الوليدة، بحيث تؤتي ثمارها على حين الفتاة تكبر. أي إنهم لا يزرعون الأشجار وحسب، بل يعتنون بها أيضاً، ويحرصون على حمايتها من النمل الأبيض، والنباتات الضارة، كما يقومون بتسويرها بنباتات الصبار، التي أصبحت ثمارها مصدر رزق للعديد من السكان.
تم إرساء هذا التقليد الفريد باقتراح من الزعيم الأسبق لقرية ببلانتري، شيام ساندر باليوال، تكريماً لابنته التي وافتها المنية في سن مبكرة.
خلال السنوات الست الماضية، تمت زراعة أكثر من ربع مليون شجرة مثمرة في قرية ببلانتري. وقد انعكس تقليد الاحتفاء بالبنات على العلاقة بين الأهالي بشكل إيجابي بحيث إن مخفر شرطة القرية لم يتلق أي شكوى خلال الأعوام الثمانية الماضية، ما يؤكد أن الاهتمام بالبنات يحسن طعم الحياة.