الدم الحرام..

| إسماعيل مروة
كل دم حرام.. لا يستثنى دم من الحرمة حسب كل الشرائع والفلسفات، فكل الشرائع حتى تلك التي تدعو للقصاص أردفت بالمرتبة الأعلى من القصاص «العفو»، العفو أعلى مرتبة ومكانة، والنصوص تشير إلى حرمة الدم، والذي يمكن أن يجعل هذا الدم مجال خلاف هو الاقتتال والحرابة من دون وجه حق، والفكر، كل فكر، يستحق أن يناقش لا أن يرفض، وأن يعدَّل ويغير ويحور ليناسب الإنسان، لا أن يتحول الفكر إلى مقدس لا يقربه أحد مهما علا شأنه، بل إن المقدس خضع لقراءة وقراءات لتجعله قريباً من الأفهام، يخدم حياة الناس، لا ليستحل حياة الناس.. المقدس من أقدم النصوص إلى أحدثها جاءت لخدمة الإنسان لا لقهره وقتله وتحليل دمه، وكل النصوص المقدسة خضعت لقراءات من أناس رأوا أنهم الأقدر على فهمه وتقديمه، أو قدمهم الناس في زمانهم، وجعلوهم قدوة في الفهم والتفسير والتقريب، لكن هذا التقدم أو التقديم هل يجعل فهمهم وتفسيرهم للنص مقدساً؟ وهل يرفعهم درجات في قداسة الرأي والأشخاص؟ وهل يمنح الأتباع ممن نعرف، وممن لا نعرف في مرتبة القداسة والطهرية؟! ولو قلبنا السؤال وقلنا: لو أدرك أولئك النفر الذين سبقونا وأدلوا بآرائهم أننا سنحولهم إلى مقدسين، وأننا سنقتل ونستحل ونفعل الأفاعيل بحجة آرائهم هل كانوا سيضعون هذه الآراء التي ما وضعوها إلا لخدمة الإنسان؟!
لا أظن أنهم سيقبلون، ولا أظن أن أحداً مهماً بلغت درجته الدينية والروحية يبلغ مرحلة القداسة في الحياة الدنيا، أو يستحق أن تزهق روح لأجل رأيه، ولنا في النص الديني قدوة، إذ لم يترك مرسلاً أو نبياً إلا وأخذ عليه مأخذاً أو عاتبه في أمور الدنيا، من دون أن يمس ذلك في جوهر الرسالة! فمالنا نحن نسبغ القداسة والتقديس على من هم دون ذلك بكثير؟!
ولو أردنا أن نكون منصفين فما من أحد دعا إلى التعصب لقوله ورأيه، بل إن منهم من غيّر وبدّل في قراءته بين مدة وأخرى كما فعل الإمام الشافعي في مراحل من حياته، وما من أحد دعا إلى قتل وكره، بل إن ما ندعي اليوم الانتماء إليهم كانوا في حياتهم متحاورين متجاورين، إن لم نقل متحابين، فهذا تتلمذ على ذاك، ومن أسبغنا عليهم صفات مذهبية وطائفية فيما بعد لم يكونوا كذلك، ولم يؤسسوا في يوم لمذهب أو طائفة، وإنما من جاء بعدهم انتمى إليهم، واختلق من القصص ما لا يمكن أن يحدث، وصنع من الحوارات ما لا يمكن أن يكون ليصبح بجهله سيداً، وليحصد المنافع الكبرى! ففي عصور أوروبا الظلامية جاؤوا بصكوك الغفران فهل هذا من الإرث المسيحي كما قد يروجون؟! وهل تعود عوائد صكوك الغفران للإله ويسوع أم تعود إلى مشرعيها؟! ولأنها ليست سليمة تلاشت ولم يعد لها وجود بعد مرحلة سياسية وتاريخية محددة الزمان والمكان!
وفي الإسلام من الذي يملك الحقيقة؟ ومن الذي يملك مفتاح الجنان؟ ومن القادر على تحديد الصالح وغير الصالح من الأمة والناس، والقول بأنهم (بضع وسبعون شعبة) وهناك فرقة ناجية، وكل واحد يرى أن شعبته هي الناجية من النار، وحقيقة الأمر أن الفئة الناجية هي فرقة لا تنتمي إلى البضع والسبعين، وإنما هي شعبة ترى أن الفرق كلها على صواب من وجهة نظرها، وهذه الشعبة لا تظن بنفسها الظن الحسن، وعندما نصل إلى هذه المرحلة المتقدمة من الفهم للنجاة والشعبة سنتحرر من ربقة التبعية العمياء، ونرى الآخر بمنظور الإنسانية، وبأن هذا الآخر لديه رأي يستحق أن يسمع لا أن يقتل بسببه، وهنا لا أستثني مذهباً أو طائفة، ففي كل المذاهب نجد التشدد والتطرف لأنه إنساني لا إلهي، وفي كل مذهب نجد التسامح والفهم.. الجهل الذي يقف وراء كل أمر، فكم من متعصب ديني لا يعرف تاريخ مذهبه أو طائفته؟! وكم منهم لا يعرف كلمة مما قال إمامه؟! وكم من متعصب لا يحفظ آية من إنجيل أو قرآن؟! وكم وكم؟! والتسامح الحقيقي لا يكون إلا من العالم الفاهم المنعتق من أمور الدنيا، والمبتعد عن الغايات الشخصية سلطوية ومادية وما شابه ذلك.
يأتي من يتحدث بالمسيحية وهو لا يعرف عنها شيئاً، ويأتي من يتحدث بالإسلام وهو لا يعرف كلمة من القرآن! وهذان هما الأكثر تشدداً! والغريب أنه كلما زادت دعوات الحوار بين الأديان والمذاهب زاد العنف وزادت القسوة ولم نخرج بنتيجة، لنصل إلى أن كل دعوات الحوار ليست أكثر من جلسات بروتوكولية يذهب إليها كل واحد متسلحاً بآرائه، ويطرح كل واحد فهمه ورأيه، يجلسون يتحاورون، يتهادون، يغادرون، ولكن ما الذي يبقى؟!
حضرت بعض هذه اللقاءات والمؤتمرات، وشاركت في حوارات فوجدت أن الشيء الوحيد الذي ينتج عنها هو أن المحاضرات والندوات تظهر العورات، وتبرز نقاط الخلاف بين الديانات والمذاهب والطوائف، وما كان مجهولاً أو غير موجود أصلاً تأتي هذه الحوارات لكشفه، أو لتقديم قراءة جديدة، هذه القراءة تسهم في توسيع الهوة بين المتحاورين، ونلفت الانتباه إلى تفصيلات يكمن فيها الشيطان، وفي لقاء آخر يأتي بعده سنصل إلى التمترس والصدام! ولم نشهد في أي حوار محلي أو إقليمي أو عالمي إلا المزيد من المطبوعات والدراسات التي تعتمد المحاججة في إبراز الحقيقة إلى جوار المتكلم! ولا ينسى أي واحد من الأفاضل أن يبدأ كلمته أو بحثه بعبارة أو أكثر للحديث عن الحوار والاعتراف بالآخر!
المشكلة كبرى، ولولا ذلك ما أخذت مساحات انتهت إلى ما نحن عليه، علماً بأن أحداً لا يستطيع الجزم لا بمذهبه ودينه، ولا بنسبه وعرقه وشجرة نسبه، وكل ذلك من باب الأراجيف!
فكم من إنسان قتل أخاه أو قريبه أو صديقه بدم بارد؟!
كل الدم حرام إن كان قريباً أو بعيداً، من منظور الإنسانية والشرائع، وكل الدم مباح من منظور المصلحة والجهل.
أذكر هذا بغصة وأنا أتذكر ما قاله لي سماحة المفتي العام بعد عودته من رحلة إلى الهند ولقاءات مع الهنود والرجال الروحانيين هناك «هناك مئات الملايين يتبعون شخصاً واحداً، ومئات المذاهب والاختلافات، كل واحد يحتفظ برأيه، وكل واحد يتبع مرجعيته، لكن واحداً لا يقدر على صفع أخيه الآخر».
كم نحتاج من الزمن لنصل إلى فهم حقيقي للخلاف وأهميته؟ متى نتخلى عن الشعاراتية بأن الاختلاف رحمة لنصل إلى تطبيقه حقيقة؟ أظن أن الأمر جدير بالبحث لنصل إلى أن الدم حرام، والحوار ضرورة والاختلاف رحمة..
ليست الشرائع وحدها تحتاج هذا الفهم، بل الأيديولوجيات، والأحزاب التي مارست الإقصاء بأقسى مما فعلت الشرائع ومفسروها والأحزاب الدينية، ويزيد الأمر سوءاً عندما نستعرض الأحزاب العلمانية والقومية ونجد أنها بنيت على أرضية دينية ومذهبية وطائفية، وخلصت إلى سياسة القتل والتدمير والإقصاء.. فماذا عن الدم الحرام؟!