تجربة تطبيق علوم التنمية البشرية في المدارس
| سوسن صيداوي
جرت العادة بأنه مع موت الحروب بأزماتها ومآسيها وأوجاعها بزوغ ثقافات ناشرة لمفاهيم تدعو إلى ضرورة التمسك بالأمل مع الحياة، بأهمية الشجاعة لإغلاق صفحات الماضي والعيش بكل يوم على أنه صفحة بيضاء مع التعود على الكتابة عليها بكلمات تحمل مضامين تبعث على الراحة والسرور في النفس، هذا الكلام ليس خياليا وبعيداً عن الواقع كما أنه ليس بنظري وللتأكد هيا لنعود إلى الماضي إلى ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، فبعد الصدمة التي دامت طويلا لهول ما ألحقت هذه الحرب من ويلات ودمار، استيقظت الدول سواء المشاركة فيها أو الخاسرة على دمار بشري واقتصادي وعمراني، بل الأهم من ذلك يمكننا القول بأنها استيقظت على دمار شامل للمجتمعات وانكسارات مرعبة للنفسية البشرية، هذه الصحوة تبعتها حركات جديدة تسعى لتطوير العملية الاقتصادية ومن ثم أعقبها حركة للتنمية البشرية لضرورة توسيع خيارات البشر من خلال تطوير قدراتهم في المجالات كافة بهدف أن يكون البشر قادرين على العيش حياة مديدة وصحية فكريا ونفسيا وجسديا مع القدرة على إثبات الذات والوصول إلى مستوى لائق من المعيشة.
واليوم ونحن في عامنا الخامس للأزمة السورية وفي خضم هذه الحرب التي تكالبت فيها معظم دول العالم على وطن غال، هنا المطلوب منا حمل أسلحة ولكن هي من نوع مختلف تماماً عما هو معروف، فعلينا التسلح بالأمل وبواقع استمرار الحياة وغيرها من المدّعمات الإيجابية التي تعزز أهمية النظر إلى المستقبل فقط… لضرورة البناء، هل هذا كلام تنظيري بعيد عن الواقع؟
الجواب ربما سيكون على الشكل التالي…
طالما نحن هنا فبالنتيجة أطفالنا هنا والأمر الذي يقتضي بالنهاية، ولأجلهم بالذات، سيكون هنا مستقبل وبناء.
صناعة الحياة… علم
تحكم السلوك البشري الكثير من الأمور الاجتماعية والإنسانية والمحرمات وغيرها من الأمور ولكن الأهم هو العادة.. فحسب عاداتنا تكون حياتنا وينعكس عليها النجاح أو الفشل، واليوم وبما أن كل ما هو محيط يشكل عائقاً لأمور عديدة كالوقت والذهاب إلى العمل أو الجامعة أو حتى القيام بأبسط الأمور والتي كانت تمتّعنا وتعزز من وجودنا قبل الأزمة ولكنها اليوم ربما تكون عند الكثيرين شبه مستحيلة أو بلوغها يتطلب الصبر الكبير والجهد المضني، إلى هنا لم تتوضح الصورة وما أقصده وأريد التركيز عليه هو ما أورثت هذه الأزمة بظروفها من عنف وقسوة وفظاظة قريبة جداً من انعدام الأخلاق والآدب عند الكبار بالعموم وبالخصوص، وللأسف الشديد، عند الصغار، مديرة مشروع نسور سورية التطوعي ديما الشام «كلنا اليوم بسورية وبسبب الظروف الحالية نخضع للضغوط والتوتر وأنا على الصعيد الشخصي لجأت لعلوم التنمية البشرية كي أزيل الطاقة السلبية والتوتر وفعلا استفدت جدا، ومن هنا فكرنا بضرورة نشر هذه العلوم كي يستفيد أكبر عدد ممكن من الناس، لذا تواصلت مع مجموعة من المدربين بهذا المجال وقررنا أنه علينا أن نبدأ من المدارس لأن الأطفال من أكثر المتأثرين بهذه الأحداث وهذا الأمر واضح من الطريقة العنيفة التي يتم التعامل مع بعضهم فيها سواء بالكلام أو التصرفات، وفعلا تم التواصل مع وزارة التربية وكان لنا اجتماع مثمر مع معاون وزير التربية وقررنا من خلال الاجتماع أن هذه الفكرة ستكون بداية كمرحلة تجريبية لنرى مدى تأثير هذه العلوم في الطلاب ومن خلالها سنقيس نجاح الفكرة كي يتم تعميمها في حال نجاحها في السنة القادمة».
لا تعط السمكة… بل علّم الصيد
نعم تبنت الكثير من دول العالم المتقدمة علوم التنمية البشرية لأنها عملية تطوير للقدرات البشرية والتعليمية والخبرات، كي يستطيع البشر التمتع بحياة مريحة وفعالة نوعاً ما، من خلال مواجهة الضغوط وتجاوز المصاعب والسعي مهما بلغ المرء من عمر إلى تجنب الإحباط أو التقاعس، هل ما زال هذا الكلام تنظيرياً وبعيداً عن الواقع؟… ربما يكون كذلك ولكن طالما نحن مكب استهلاكي لكل ما لديهم من أفكار وسلوكيات ومنتجات إذا هم السبّاقون ونحن من نلهث وراءهم متعبين فقط لمجرد الاستفادة من تجاربهم، وإلى الآن هي من قبلنا مجرد محاولات وطبعا برأي الكثيرين المحاولة أفضل بكثير من الاكتفاء بالوقوف والتفرج، مديرة مشروع نسور سورية التطوعي ديما الشام قالت بأن هذه الفرصة التي منحتها وزارة التربية جيدة رغم أن الأمر ليس بالسهل أبدا ومضيفة «لقد اخترنا من ثلاث مدارس ثلاثة صفوف من مراحل عمرية مختلفة صف خامس، ثامن، وحادي عشر، وذلك بغرض ملاحظة المستوى بين هذه الصفوف المختارة وبين باقي صفوف المدرسة، كما تطلبت منا هذه التجربة اجتماعنا مع أهالي طلاب الصفوف والكادر التدريسي كي نطلعهم على الشيء الواجب اتباعه مع أولادهم في المنزل حتى نستطيع تحقيق التكامل ونضمن النتيجة، والأهم بأننا انطلقنا بتعليم الطلاب سلوكية منهجية كي يصبحوا أكثر محبة لأنفسهم وللآخرين وكي يتعلموا العطاء، إضافة إلى تمارين تزيد من قوة التركيز والتنفس الصحيح ومنع تحدب الأكتاف بسبب الجلوس الطويل بالمقاعد وغيرها الكثير من التمارين المفيدة لصحتهم والتي بطبيعة الحال يمكنهم اتباعها في حياتهم، وليس هذا فقط بل نحن نتوجه من خلال اليوغا وعلوم التنمية البشرية إلى تعليم التلاميذ كي يحددوا أهدافهم وكيف يحققونها، مع تدريبهم على تقدير الوقت وحسن تنظيمه وإدارته بين الدراسة والنشاطات، والتأكيد على ضرورة تطوير المواهب من خلال الابتعاد عن التفكير السلبي والتركيز على الفكر الإيجابي».
العادة بالوقت… تُكتسب
إنها التجربة الأولى من نوعها في المدارس وكل ما هو جديد هو لافت للنظر، وهذه الخطوة ليست بالبساطة فهي تحتاج إلى وقت طويل كما أنها تحتاج إلى تدعيم من خلال المناهج وما يتم تدريسه وأهمية تقبل المفاهيم الجديدة التي يتم طرحها من خلال علوم التنمية البشرية كي لا تكون هناك حلقة مفقودة، مديرة مشروع نسور سورية التطوعي ديما الشام «طبعاً الشيء الذي ساعدنا بسرعة في تطبيق التجربة هو تجاوب الوزارة والمدارس والمدرسين معنا، والصعوبة الوحيدة التي كنا نتوقعها هي عدم تقبلهم فوراً لهذا الموضوع الذي يعتبر جديداً عليهم، وهذا بالفعل ما واجهناه بالصف الثامن وفي الدروس الأولى ولكن حالياً وبعد مرور شهر على التجربة بدأ التلاميذ يشعرون بفائدة الموضوع ويتعاونون مع المدربين ويستجيبون للتمارين، وما شدّ من عزيمتنا في هذا المشروع هو آراء الكادر التدريسي والإدارة الذين أكدوا حسن سلوك الطلاب والتجاوب السريع رغم المدة القصيرة».
محاولة واحدة لا تكفي
إذا أردنا تحقيق الأهداف فعلينا بالتمرين والاجتهاد، فإصلاح الأمور وتهذيب السلوك واكتساب المرونة وتعليم الصبر لا يمكن أن يكون برفة عين ولا حتى بتناول جرعة سحرية، إذا لابد لنا من تكرار المحاولات وللعديد من المرات للوصول لما نريد، مديرة مشروع نسور سورية التطوعي ديما الشام «التعاون قائم مع وزارة التربية وهي جادة لتسهيل أي صعوبات ممكن أن يتعرض لها المشروع، كما سيكون في نهاية العام الدراسي الحالي استبيان لمعرفة التغييرات التي طرأت على الطلاب بمشاركة المدرسين والموجهين الذين تم اختيارهم كمساعدين في الاستبيان وفي حال نجاح هذه التجربة سيتم تعميمها في المدارس ليتم بعدها إدراجها للجامعات، وكلنا طاقة إيجابية وتفاؤل بأننا سنصل إلى نتيجة مهمة نقدر من خلالها أن نقدم شيئاً مفيداً لهذا الجيل الذي للأسف نشأ خلال الأزمة وعكست عليه كل مآسيها وأوجاعها».