ما أشبه اليوم بالأمس
| بنت الأرض
بعد انتهاء حرب تشرين التحريرية وبدء زيارات كيسنجر المكوكية إلى المنطقة، بذل الرئيس الراحل حافظ الأسد قصارى جهده كي يحافظ على موقف عربي واحد سواء في فصل القوات أم في وقف تدفق النفط إلى المصانع الغربية الداعمة للاحتلال الإسرائيلي. وعلى الرغم من وعود السادات المتكررة للرئيس حافظ الأسد بأنه لن يسير بمسار منفرد وأنه سوف ينسق خطواته مع سورية، فقد هرول مع الأميركيين وتخلى عن شقيقه وحليفه العربي ووقع اتفاقية سيناء (2) سراً مع الأعداء الألداء الإسرائيليين، كما أن وزير الخارجية السعودي آنذاك وبعض وزراء دول الخليج سارعوا للإعلان عن رفع الحظر النفطي عن الغرب من دون أي مقابل ومن دون التنسيق مع سورية على الرغم من قرارات القمة العربية ومن وعودهم للرئيس الراحل. وبذلك فقد أفقدوا المواطن العربي فوائد النصر العسكري من خلال إلحاق هزيمة سياسية بالتنسيق العربي والموقف العربي الموحد الذي هو الشرط الأساس للتفوق على الخصوم والأعداء وإعلاء كلمة العرب في أي زمان ومكان. وبعد عام 1974 تسلسلت الأحداث وتمّ توقيع كامب ديفيد مع العدو وإخراج مصر، الدولة العربية الأهم وصاحبة الجيش الأقوى، من الصراع العربي الإسرائيلي عسكرياً على أقلّ تقدير، ومن ثم خسارتها لدورها المعهود عربياً وإفريقياً وعالمياً وبروز دول الخليج الصغيرة لتملأ الفراغ.
السادات وقّع على أنه حتى إذا نشبت حرب بين سورية وإسرائيل فإن مصر لن تتدخل وستقف على الحياد. كان هذا أول وأخطر إسفين تدقه إسرائيل في جسد العروبة وفي الإستراتيجية القومية العربية التي كانت الشغل الشاغل والهمّ الأساس للرئيس حافظ الأسد. وفي مفاوضات السلام في التسعينيات أصرّت سورية على أن يتم تمثيل الدول العربية بوفدٍ عربي واحد لأن قضيتنا الأساس هي فلسطين والأراضي العربية المحتلة، وبعد مئات الساعات من الحوارات الصعبة وعشرات الاجتماعات وإذ باتفاق أوسلو يطعن عملية السلام القائمة في واشنطن آنذاك في الظهر ويذهب بالصمود العربي والإلحاح على وحدة الموقف العربي أدراج الرياح، ومرّة أخرى يصاب التنسيق العربي بتصدّع لا يمكن رأبه ويختلّ التوازن في السياسة مرّة أخرى لمصلحة العدوّ الصهيوني. وفي كلتا الحالتين لم يكن سبب تراجع الموقف العربي قوة جيش الاحتلال ولا انهزام الجيوش العربية في الحروب، ولكنّ السبب كان تواطؤ بعض حكام العرب مع الأعداء على حساب أشقائهم وقضاياهم ومصالح شعوبهم من دون أن نعلم ما هو المكسب الذي حققه السادات أو عرفات أو غيرهما من هذه الخدمة المجانية الهائلة التي تمّ تقديمها لعدوّ الأمة العربية الذي يحتلّ أرضنا ويلحق الإذلال بشعبنا العربي في أقطاره المختلفة منذ ذلك الحين وإلى يومنا هذا.
واليوم وبعد زيارة الجنرال السعودي أنور عشقي إلى الكيان الصهيوني المحتل لفلسطين والجولان، والتي تبعتها زيارات وتواصلات مختلفة سرّية بين السعودية والكيان، فقد كثُرت النقاشات والآراء والتفسيرات والدفاعات من البعض عن مثل هذه الخطوة. ولكنّ القراءة الإستراتيجية والمستنيرة لهذه الخطوة العلنية لابُدّ أن تراها في إطار إستراتيجية عدو العرب الأول وحلفائه الغربيين في تفكيك المواقف العربية والبناء على كامب ديفيد وأوسلو وإخراج بلد عربي آخر غنيّ بثرواته ومكانته الدينية لدى مسلمي العالم من حلبة الصراع العربي- الإسرائيلي، وإنهاء هذا الصراع وابتلاع فلسطين كلها واستعباد شعبها بدعم من حكام الدول العربية. ولابُدّ من قراءة هذه الخطوة أيضاً كنتيجة مباشرة لما سموه «الربيع العربي» والذي هدف فيما هدف لتفتيت هذه الأمّة وتوجيه ضربة قاصمة للعروبة والشعور القومي والإستراتيجيات القومية من خلال إثارة فتن طائفية ومذهبية، واستعمال فتيل حروب إرهابية قطرية وإقليمية تضمن لإسرائيل حريّة الفتك المتسارع بأرض فلسطين، وشعب فلسطين ولجعلها لاعباً إقليمياً بعد طمس حقوق العرب وحق العودة وعدم الحديث عنه حتى في القمم العربية التي غدت هزيلة ومنفصلة تماماً عن نبض الشعب العربي، وقاصرة جداً عن الارتقاء إلى أدنى درجات طموحات هذا الشعب وآماله. لا بل، أن تجرؤ السعودية بنقل علاقاتها مع إسرائيل من السرّ إلى العلن هو بحدّ ذاته نتاج «ربيع عربي» نجح في تفكيك اللحمة العربية لأول مرّة منذ عهد الرسول (ص)، وشتتّ اهتمامات وأذهان العرب بحيث يتجرأ بعضهم أن يتخذ مواقف شديدة الضرر بمصلحة الأمة من دون أن يرفّ له جفن. واليوم وبعيداً عن الأخذ والردّ، لابدّ من الاعتراف بأنّ معظم نقاط وهن العرب ناجمة عن تواطؤ بعض حكامهم ضدّ قضايا العرب الأساسية، وأنّ الحروب التي تُشّن على سورية سببها صلابة مواقف سورية في وجه الأعداء وفي وجه محاولة تصفية حقوق العرب في فلسطين والجولان وجميع الأراضي العربية المحتلة. اليوم، كما الأمس، أصبح الفرز ضرورة للاستمرار والنجاح، ولابدّ من تسمية الأشياء بأسمائها الواضحة لإعادة الاعتبار للإستراتيجية القومية التي هي الخلاص الوحيد لهذه الأمة، والتأكيد دوماً أن «من تحالف مع عدونا ليس منا» وأنّ من «حلل دمنا ليس عربياً» حتى ولو نطق بالعربية، فالكثير من أعدائنا الأجانب يحسنون النطق بالعربية وأفضل بكثير من الطغاة العرب الذين استرخصوا الكرامة العربية، ولابُدّ من أن نكون شديدي الوضوح ضدّ التواطؤ والعمالة مهما ألبسوها من لبوس، وأن نكون دائماً وبأعلى صوت مع المقاومة واستعادة الحقوق وانتصار العروبة.