ثقافة وفن

بين تغريبتي فَقْد.. وغزالة ترقب … نوال الحوار.. وجدان يفيض وغصة وطن لا تحدّها الكلمات 

| إسماعيل مروة- «ت:طارق السعدوني»

غربتان وتغريبتان وشاعرة قلقة الروح، ثابتة المشاعر، في وقت واحد تشعر نوال الحوار أن أختها غادرت في غربة وتغريبة، وتشعر يحاجة ماسة للركون إلى جدث هذه الأخت لتحاورها وتبثها، قد تكون لك الغزالة سعيدة، لكن الشاعرة لا تشعر بهذه السعادة، وترسم عالماً من ألم الجسد والروح معاً، فلا مكان تأوي إليه الشاعرة للحديث مع أختها الغزالة التي نفرت بعيداً، لذا أرادت أن تقيم لها نصباً خاصاً بها، أرادت لها أن تخلد أمامها شخصاً وروحاً وجسداً، فاختارت صورتها ورسمها لتكون علامتها هي، في كل صباح ولحظة، وعند كل قراءة تقرأ تقاسيم الوجه الهادئ لتسكنه ما شاءت لها السكنى.

وطن وغزالة
في الوقت ذاته الذي غادرت الغزالة، وافتقدت جدثاً، تقف نوال أمام وطنها، أمام سوريتها لتشهد وتسجل تغريبة وغربة، نوال اختارت العلم والحياة والسفر، لذلك اغتربت منذ عقدين من زمن باختيارها، وهذا الخيار يظهر مقدار انتمائها، ففي غربة الوطن وتغريبته، وفي حزنه عادت إلى وطنها وزارته وأقامت أضعاف ما فعلت قبل أن تبدأ غربة الوطن! تشعر الشاعرة أن الوطن بحاجة إلى شعرها وكلماتها وأحاسيسها الآن أكثر من أي وقت مضى، وربما كان لتزامن الغربتين للأخت والوطن الأثر الأكبر في التصاقها بالوطن أكثر، إذ لم تشأ الشاعرة كما أزعم أن تفقد لحظات مع وطنها كما فقدتها من قبل مع غزالتها.. نوال التفكير والأكاديمية والاغتراب بينها وبين تغريبة الغزالة تنافر والتصاق، فهي أبعد ما تكون من البكائية والألم، وهي تتطابق مع وطن وغزالة بوجدانيتها العالية، واعتدادها بسوريتها وانتمائها حتى في أدق تفاصيل لهجتها ولباسها عندما تتقدم لتؤدي صلوات عشقها في الوطن أو له.
غزالتي
تأتين عبر التذكر
كحمامة حطت على غصن واستراحت
تهدلين على غصن ينبثق من نافذة غرفة نومي
غصن اسمه: الأرق
حمامة تورطت بالهديل للأبد
وأنا علقت في قفص ذكراك
مثل عصفور مأسور
وتناسيت أني حرة من الأقفاص
في الأحلام، أتربص بك غزالتي
وأراقب كل الدروب البعيدة
وأقول لعلك: تجيئيني اليوم
يتحول عند الشاعرة الأسر لها بدل أن يكون للغزالة التي عاشت غريبة بعيدة عنها وماتت غريبة، وضمتها تربة غريبة عن الشاعرة والغزالة معاً، فهي تعاني القفص والأسر الأقسى في الذاكرة. وهي ترقب توءمها، تتابع أختها التي تشتاق إليها كثيراً، وتمضي ما تبقى، وما تبقى كثير، بألم صياد يترقب ويتربص، لكنه يترقب ما لا يأتي إلا طوعاً، ويترقب ما لا يغادر، يترقب الذاكرة وحسب.. الفراق قد يكون سهلاً إلا إذا امتزج بألم البعد الشديد عن الإنسان الذي ربطت مشيمته بالمغادر. فكيف إذا كانت المغادرة قدراً منذوراً منذ الولادة، وما بين الحضور والغياب تتجول الشاعرة باحثة عن أختها التي تحولت إلى أصل، وأدخلتنا الشاعرة بالإيهام أنها الظل!
غزالتي
حضورك المفرط يعيق الفرح وكل ما يشبهه
الغزالة، الغياب.. الرحيل..
الغياب!.. لقد كنت دائماً اسماً رديفاً للغياب
الرحيل!
كنت دائماً أسرع من الرحيل
الحزن!
كان قدحك اليومي: الحزن
وغدوت أنت الحضور الغائب
والغائب الحاضر
أنا كلي مرايا لطيفك
في كل لقاء بيننا
كنت فيه تقلدين: الوداع
سجنت.. منذ اليوم الذي تحول فيه غيابك إلى قمقم
محكم الإغلاق
وحدها الشاعرة تدرك عمن جرح التغريبة، فقد أشارت وإن عجزت عن البوح التام إلى الغربة الدائمة التي كانت الغزالة رهينة لها منذ سكنت القمقم، وكانت أكثر شجاعة عندما استخدمت تعبير سجنت… وغادرت الغزالة ولم تكن مغادرتها إلى مقام تستحقه، بل إلى رمل لا يبقي إلا الذاكرة التي تعجز أن تبقى وسط المتحرك من الكثبان، ولهذا المتحرك في الحياة تتقدم الشاعرة:
أيتها الغزالة.. انتظريني سأذهب معك
ما أجملها صحراءك… سراباتك
كل تلك القصور التي تدوم للحظة ثم تتلاشى
خذيني معك
لأتعلم كيف أقلد السراب
كيف أناور الحقيقة
وأصنع كذبة واحدة بحجم كل حقائق حياتي المرة.

وطن ودمار وغربة
ومن دون إنذار، ومن دون عناوين حادة فاصلة، ومن دون دلالات وطنية اعتادها القارئ انتقلت الشاعرة إلى تغريبة سورية الوطن، وإن كنت سأختار نماذج إلا أن الشاعرة كانت كالرمل الذي تحمله ريح المحبة لينتقل من الجزيرة السورية إلى كل موطن من سورية، ولكل مكان ذكرى مختلفة، ومن حمص إلى الشام إلى كل مكان ندلف في غربة تشبه غربة الغزالة، لم يبق منها إلا الذاكرة المثقلة بالتشبث المرهق:
في حمص لا أشعر أنني غريبة
أشعر أني بنتها
تغمرني بالدفء والحنان
فيرحب المكان
ويرحب الزمان
والآن
أدخل هذا الشارع الذي أحب
كيف صار؟!
كيف كان؟!
أين صباياه وأين أهله؟
أين جمال الضوء والألوان؟
أين العيون نظرة من نرجس؟
ونظرة من خرز ملون
ونظرة تخبئ الأجفان
من خلفها لفتة أقحوان
وفي الشام التي تعرفها، وتقدر بداوتها تقف الشاعرة متخوفة من ألا تعرفها الشام!
هل تعرفني الآن دمشق؟
هل تعرف وجهي ويدي وصوتي؟
فأنا مئذنة أيضاً
وبصدري ناقوس يخفق بين ضلوعي
بنشيد الحب
وباسم الرب
ناقوس حين يرن
يجيء العشاق إلي
وفي أيديهم باقات الورد
فيمشي عطر خلف خطاهم
حتى يشهق بعبير العشاق الدرب
وأنا لا أملك إلا هذا القلب!
من حمص إلى الشام إلى حماة تتجول الشاعرة وفي صدرها عنين ناعورة تتألم لغربة روح ووطن، في حلب توقظ سيف الدولة وإلى كل مكان تتوق، وفي جزيرتها، في القامشلي تناجي نخلتها:
عم تسائلني تلك النخلة
نخلة القامشلي
عن الكحل في عيني؟
أم عن وشم الغجر على زندي؟
أم تراها تبوح لي:
أنني البذرة التي تنبت منها شجرة
شجرة
تلو شجرة
فأكون غابة نخيل تسود الرمل
أسعف الموضوع الشاعرة في الحديث عن تغريبتي بعد رحيل وانتهاء، فجمعت بين وجعين، كل واحد منهما أقسى من الآخر وأعمق، وما من عبث ختمت الشاعرة ديوانها بوعي بحديث عن الذاكرة، حتى إذا جاء الزمن ساحباً خلفه ملاءة النسيان البيضاء
نشهر في وجهه:
صورة،
فتخرج الذاكرة من تلقاء نفسها..
لتقول: ها أنا
نوال الحوار شاعرة سورية، تقول: ها أنا أخت لغزالة، وابنة لوطن، كلاهما قتله الرحيل والاغتراب، وأبقى أنا لذاكرة متعبة، لكنها تبقى أبداً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن