ثقافة وفن

«الأسلوبيّة الدّلاليّة في الأدب العربي» … د. «فايز الداية» يختم جهده في دراسة المدلولات والأسلوبيّة في كتابه الرابع

| عامر فؤاد عامر

يجتهد د. «فايز الداية» في كتابه «الأسلوبيّة الدّلاليّة» لمنحنا اكتمالاً لدراسة ابتدأها في كتاب «جماليّات الأسلوب– التركيب اللغوي» الصادر عام 1981، و«علم الدلالة العربي– النظريّة والتطبيق» عام 1985، و«جماليّات الأسلوب– الصورة الفنيّة في الأدب العربي» عام 1990، وبذلك يختتم بحثه هذا في دراسة تهتم بالدلالة في آفاق الخطاب الفنّي بعد التطوّرات التي بلغتها في الجهود اللغويّة الحديثة.

تساؤل
يطرح د. «فايز الداية» سؤاله في مقدّمة الكتاب «هل الأسلوبيّة هي النقد الأدبي»؟ ويجيب عليها من منطق اليوم قائلاً: «إن الأسلوبيّة الأدبية لا يمكن أن تنهض إلا مع خبرة النقد وحساسيّة الناقد يعايش النصوص وتجارب الأدباء من الداخل، وفي شعاب لها، ونحن ننطلق من الفرع من فروع الأسلوبيّة ثم ينداح التحليل والدراسة إلى أفق شمولي التناول وهو النقد الأدبي، وليس لناقد أن يخوض في الأنواع الأدبيّة إن لم يكن يمسك بالأسلوب وجوانب البنية في النصوص التي يجري عليها تطبيقاته، أو هو يأخذ ناتج أعمال أسلوبيّة لغويّة مع دراية بما تختزنه من إمكانات ليتابع جهده التحليلي…».

تعاريف أوليّة
يقف الكتاب عند مدخلٍ تعريفي للدلالة اللغوية والأسلوبيّة من خلال أبعاد وعلاقات استند إليها، بعيداً عن الخوض في السرد التاريخي لعلم الدلالة أو علم الأسلوب. فعلم الدلالة يدرس المعنى اللغوي، طبيعته، وأحوال تطوّره وعلاقاته التي تتحرك داخل النصوص ومع الجوانب النفسيّة والاجتماعيّة للإنسان، ونعبّر عن المعنى بمصطلح «الدلالة اللغويّة لمرونة اشتقاقاته، الدال والدوالّ والمدلول، والمدلولات والدلالة ويدلّ..». أمّا الأسلوبيّة ففيها يضيف المؤلف: الأسلوب هو الطريقة التي تحمل أبعاد التجربة في النوع الأدبي، وتكون قادرة على التوصيل إلى المتلقين، وعندما ننتقل إلى مصطلح «علم الأسلوب» أو الأسلوبيّة» فنحن ندرس ونحلل النصّ الأدبي.

الإطار الدلالي الأسلوبي
تعكس مدلولات النص ما لدى المبدع من صور ذهنية أي تصوّرات للمدلولات الحسيّة والفكريّة والنفسيّة، وتشكّل جزءاً من رصيده الدلالي المتراكم عبر الخبرات النفسيّة والمعرفيّة والفكرية خلال حياته، ويأتي هذا التفاعل معها في التجارب الأدبيّة ومواقفها عبر استجابة مباشرة وأخرى يرسلها الوعي العميق المستقر في الذاكرة أو الحافظة. أمّا سمات ومبادئ المنهج الأسلوبي الدلالي فهي:
أولاً: أن تكون منهجاً مستمداً من أصول عربيّة قديمة مع مثاقفة الدراسات الحديثة في العالم.
ثانياً: أن يقوم على قراءة للنصّ من الداخل ثم يخرج إلى السياق المحيط إن كان ثمّة حاجة إلى ذلك.
ثالثاً: البناء على استقراء شامل للنصّ المدروس مع تحديد نتائج للاستقراء رقميّاً على نحوٍ موظف.
رابعاً: دور الذوق والحساسيّة الجماليّة يكمن في اختيار النصّ ومدى غنى هذا العمل إبداعيّا، وفي التحليل لأبعاد مركبة متفاعلة اجتماعيّاً ونفسيّاً وثقافيّاً.

أمثلة تطبيقيّة… ديوان أبو فراس الحمداني
اقتطفنا منه ما يلي: «يتناول البحث في الدوائر الدلاليّة جانبين من الأعمال الأدبيّة أولهما نتجه فيه إلى أديب لنكتشف ما ليس معروفاً أو مشهوراً من حضور مميّز للدوائر في نتاجه، والآخر هو ما نحلل فيه دوائر معروفة أو مشهورة بصورة عامة لأديب لم تدخل في إطار تحليلي لغوي دلالي…». وأيضاً يقول مؤلف الكتاب: «لقد أنشئت دراساتٍ عديدة قدّمت صوراً للشعراء والأدباء من خلال نتاجهم مباشرة، ثم قارنت ذلك بالأخبار التي حكت روايات أو اقتربت منها أو ابتعدت، لكن توجّهنا الذي نطبّقه على شعر أبي فراس مختلف: أولاً بنهجه العلمي المستند إلى الاستقراء الشامل، وبذا تغدو النتائج موضوعيّة وقابلة لقراءات عديدة بعد إنجازها، والجانب الآخر هو تدقيق الأداة اللغويّة بتهيئة المادة التي بنيت العبارات والصور منها، وهي الدوال والمدلولات في إطار كلّ دائرة، ويتدرّج الدرس لكشف العلاقة بين الدوائر الدلاليّة- ونحن سنواجه ثلاثاً هي الحماسة ثم ائتلاف الحماسة والحبّ ومن ثم البحر – سواء في تطور دلالي أو استخدام مجازي ورمزي».

المفتاح الدلالي والتلقي في شعر نازك الملائكة
يقول د. فايز الداية: «قراءتنا المعاصرة لنازك الملائكة 1923– 2007 في ديوانها شظايا ورماد 1949 تؤكد أننا لا نزال أمام نتاج إبداعي يعايش عالمنا ويسابقه، وهو قادر على إثارة القضايا الفنيّة والفكريّة، فالشاعرة تفاجئنا بمقدّمة نقديّة مفعمة بحماسة تستشرف الجديد وترسم خطوط القصيدة العربيّة التي تنتمي إلى عصرنا الراهن، وتمدّ الأنظار إلى الأيام القادمة، وفي هذه الغمرة تقع في إشكالين، أولهما التناقض بين ما تورده من نظريات وما تطبقه على شعرها، فهي تشير إلى البنية المركبة للقصيدة في حدث قريب وجوانب محسوسة وحشد لا يمكن تحديده من المخزون في الوعي الباطن، وتأتي إلى قصيدتها «مرّ القطار» فتتحدّث عن جزء منها على أنه هو المهم والمقصود، وفيه سبر لأغوار نفسيّة، وهنا يكتمل الإشكال الآخر عندما صادرت حقّ المتلقّي في تفسير تمنحه سطور القصيدة وزواياها المتعدّدة، فالشاعرة عندما اتخذت لبوس الناقدة أغفلت قدراً من العمل الإبداعي يحتمل الكثير من التأويل، وقد يفتح أركاناً خفيّة في التجربة الشعوريّة، ولعلّ حماسة الشباب كانت وراء العبارات النقديّة الحادّة في هذه المقدّمة للديوان مّا يضعها على نقيض ما يتداوله عدد من أصحاب نظريّة التلقّي اليوم، وبعضٌ منهم أقصى الشاعر، وبدأ يصوغ نصّه من خلال قراءته ودلالتها التي لا تستسلم لقوقعة الديوان».
يضمّ الكتاب أيضاً دراساتٍ في الدلالة ومرجعية الصورة في شعر عبد اللـه البردوني 1928– 1999 «مدينة الغد»، وأيضاً في «احتفالات» بندر عبد الحميد الغنائيّة ودوائرها الدلاليّة 1978، ودوائر «باب اليمام» 2007 لـ«سعد الدّين كليب».
وفي باب قصيدة ودلالة يعود بنا مؤلف الكتاب من جديد إلى المتنبي وبمثالٍ عن الدلالة والدراميّة عند المتنبي يتناول قصيدة الحمّى وفيها يقول: «إن المتلقي المعاصر لا يغيّر وجه النصّ الأدبي القديم عندما يتناوله في قراءة جديدة، ويجعله بعضاً من الأدوات الحضاريّة الفاعلة في الرؤية والجوانب الجماليّة في عصرنا. ذلك أن الأعمال الخالدة التي تخترق تيّار الزمن لا يطويها، هي تلك الحاملة طاقات يتلوّن جوهرها بأضواء العصور المتعاقبة وعيون أهلها، فيغدو النصّ نصوصاً متعددة إذ يجمع بين إبداع المؤلّف وتأويلات المتلقّي التي تنسب إلى زوايا واتجاهات فكريّة وفنيّة».

وهج بين الدراما والسرد
في قصيدة خالد أبو خالد
ندخل عوالم القصيدة المعاصرة في كتاب «الأسلوبيّة الدلاليّة» من خلال قصيدة «رمح لغرناطة سارية للحداد» للشاعر «خالد أبو خالد» التي تحمل امتداداً شعرياً وتشعّباً، ومحاور كثيرة بألوان ورموز وقيم تعبيريّة كثيرة، فهي مستمدة من التاريخ فيه انكسار قديم وتنبه للمعاصر، وفي عنوان «وهج بين الدراما والسرد» يضيف د. «الداية» عنها: «تطالعنا قصيدة «رمح لغرناطة سارية للحداد» وهي مفعمة بغنائيّة مكثّفة الجملة ومركّزة الدلالات، وتستجمع الصورة أطرافاً تتقارب مشعّةً، أو هي تتصادم أو تتكسّر فتتلوّن الأزمنة والأماكن، ولا تترك فرصة لنميّز دماء الشرايين من دموع أو نار للحرائق، لكن الشاعر اختار أن يتقدّم بخطاب معاصر فأعطى قصيدته مساراً سرديّاً في خطوط عريضة، وشدّ في مواضع إيقاع التوتّر الدرامي واستفاد من إمكانات الحوار، وفي لمحات نراه يحمل آلة المراسل ويبث من خلالها اللقطات المقرّبة ثمّ يبتعد لمشاهد واسعة عامّة بانوراميّة».

المزيد
تطرق الكتاب أيضاً في الفصل الثالث منه إلى الأسلوبيّة الدلاليّة في السرد والدراما ضمن سردياتٍ معاصرة كما دائرة الطبّ عند «عبد السلام العجيلي»، وألقى الضوء على الأنساق الدلاليّة في رواية «العيون الشاخصة» لـ«أحمد ولد عبد القادر»، وكذلك العلامات الدلاليّة في رواية «رباعيّات التّحولات» لـ«خيري الذهبي»، وتحليل العلامة الدلاليّة والأدب المقارن في «الهاجس والحطام» لـ«سليمان الشطّي»، والانزياح الدلالي والتغريب المسرحيّ عند «إسماعيل فهد إسماعيل»، ومواضيع كثيرة وغنيّة شملها الكتاب بدراسة وتحليل كبيرين حاولنا انتقاء بعضٍ منها، وقد نلقي الضوء على قسمٍ منها فيما بعد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن