عندما تكتب أنّا ماري شميل
د. علي القيّم
التقيتها مرة واحدة، في مدينة «ميونيخ» الألمانية، منذ أكثر من عشرين عاماً، عندما أقمنا الأسبوع الثقافي السوري في هذه المدينة التاريخية العريقة، وكانت فرصة للتعرف عن قرب على المستشرقة الكبيرة (أنّا ماري شميل)، التي كرست حياتها لخدمة الإنسانية، ومدّ الجسور بين حضارتنا العربية الإسلامية، وحضارتها الغربية.
أهم صفة وجدتها في هذه الكاتبة الكبيرة، التي يعرفها الغرب أكثر مما نعرفها بكثير، أنها متواضعة جداً، وتحمل أخلاق العلماء، بعيدة عن الغطرسة والتكبر، والعجرفة.
تستمع إلى محدثها بكل احترام ومحبة، وعندما تكتب لا تبتعد عن الواقع، وتقترب كثيراً من الواقعية وهذا ما جعلها، قبل أن أعرفها قريبة مني، تشدني كتاباتها ودراساتها ومؤلفاتها التي يلمس كل من يطلع عليها أن وراء من سطرتها، إنسانة عاشقة لرسالة الباحث والمؤرخ… رسالتها حب وتفاهم ومودة، وليست كراهية أو حقداً أو غطرسة واستعلاء وبغضاً.. من يقرأ «أنّا ماري شميل» يلمس جيداً أن الحب يحتل جزءاً كبيراً من حياتها الحافلة بالترحال في كثير من بلدان العالم الإسلامي.. ويدرك جيداً أن هذه المرأة تحب رسول الإسلام محمد (ص) وتكتب عن حب المسلمين له، وتؤمن بالعشق الإلهي، ولذلك لم تدخر جهداً حتى تنجز ترجمة أشعار مولانا جلال الدين الرومي في العشق الإلهي إلى لغات عالمية عدّة.
لقد كتبت أنّا ماري شميل، بحب لا حدود له عن الإسلام، وأعلام الحضارة الإسلامية، وطالبت في مؤتمرات وندوات عالمية كثيرة، المجتمع الغربي بالقيام بعمليات إصلاح أحوال المسلمين من أجل إصلاح حاضرهم وبناء مستقبلهم المشرق الذي يستحقونه تقديراً لما قدمه أجدادهم من إنجازات، وعطاءات كثيرة للبشرية جمعاء. لقد درست فنون الإسلام وكتبت عنها دراسات غاية في الروعة والجمال، وقدمت كل ذلك من عمارة وخط وزخرفة وتصوير إلى الغرب بأسلوب شيق وعلمي دقيق، لتقول لكل مغرض يهاجم الإسلام: إن الفن الإسلامي قدّم للفنون العالمية خدمات لا تنسى، ومساهمات جليلة، ما زالت عناصرها وجمالياتها وإبداعاتها واضحة المعالم في المساجد والقصور والمقابر والأبراج والقلاع والحصون وحتى في بقايا العمارة السكنية المنتشرة في شتى المدن والعواصم العربية والإسلامية.
لقد درست أنّا ماري شميل، فنون الإسلام لسنوات طويلة في جامعة «هارفارد» البريطانية، وكانت دقيقة جداً في كشف عظمة الإسلام في شبه القارة الهندية، وأذكر في حديثها معي في «ميونيخ» أنها لا تكفّ عن الإشارة إلى شاعرها المفضّل محمد إقبال، وكيف قامت بنقل أشعار مسلمي الهند وآدابهم، وتاريخهم إلى لغات أوروبية عدّة، وكيف سعت إلى تعريف العرب بتراث مسلمي الهند وباكستان.
سألتها عن سورية… قالت: سورية بلد عريق، فنونكم رائعة وزخرفتكم لا حدود لجمالها وروعتها. لماذا لم تعودوا تهتمون بها، كما كان يفعل أجدادكم. قلت: الاهتمام مازال موصولاً يتوارثه الأبناء عن الآباء، ونماذج هذا الإبداع الحرفي الذي يرافقنا في أسبوعنا الثقافي السوري خير دليل على ذلك. قالت: فنونكم تحتاج أكثر من التعليم والتعلّم. تحتاج إلى لمسات عصرية. تحتاج إلى حب وإيمان بها لتكون رسالة عشق وأصالة إلى شعوب العالم.
قلت: في ختام هذا اللقاء اليتيم مع أنّا ماري شميل، هل زرت سورية؟ قالت: نعم، ولدي في بلدكم أصدقاء كثر وأحباء، ما زلنا نتبادل الأفكار، وأتعرف من خلالهم على كل جديد. في سورية أحببت التأمل في جمال الطبيعة، وروعة الآثار والفنون والعمارة. بكل أسف، كثيرون لا يعرفون الدور الحيوي الذي لعبته سورية في تاريخ البشرية منذ عصور ما قبل التاريخ، وحتى اليوم… في سورية مقامات الجمال والروعة والحضارة منتشرة في كل مكان.. حافظوا عليها لتكون شاهدة على مظاهر المحبة والألفة والوئام التي لم أجدها في أي مكان آخر من العالم، أكثر حيوية وألقاً وإشراقاً من سورية.