ثقافة وفن

الطبع والتطبع

| إسماعيل مروة 

للفكر مصدران، المنشأ والتربية، ولا يمكن أن يتجاهل المرء هذين المصدرين، فالمنشأ وحده لا يصنع فكراً، والتربية وحدها لا يمكن أن تغير إيجاباً أو سلباً ما نشأ عليه المرء وتربى، ولذلك نرى أن عدداً كبيراً من المثقفين العرب ومن مختلف الاتجاهات والمشارب سببوا صدمة للجمهور، ووجد لديهم الناس تضارباً واضحاً يصل حد الاستهجان والرفض! فعدد منهم لم تستطع كل أساليب التربية والفكر أن تنميهم وأن تخرجهم من الحاضنة التي نشؤوا عليها، وبعضهم مارس التنظير عقوداً لينكص بعد ذلك عما نظرّ فيه ويصبح ضمن حاضنة المنشأة، وهذا الأمر خطير، إذ على المثقف والمتنور أن يرتقي في رؤاه ليصل المدى، وأن يبتعد عن الحاضنة إن كانت قاصرة عن رؤاه ليرفعها إلى المستوى الذي يراه ملائماً، ويرتقي معها، ولولا هذه الإلماعات ما تقدمت البشرية خطوة واحدة، وهذا ديدن الفلاسفة والمثقفين والمتنورين والمبشرين الذين يبشرون بحياة إنسانية مختلفة عما ألفه الناس.. وفي مجتمعاتنا العربية، ولحسن الخط، اكتشفنا في السنوات السابقة زيف عدد كبير من هؤلاء المثقفين الذين حلف القارئ بحياة كل واحد منهم، من حسن الحظ أننا شهدنا انهيار زيف الكثير من الذين تربوا في أرقى المعاهد والجامعات، وانسلخوا لبناء مجتمع مختلف، ولكنهم بعد عقود من محاربة طواحين الهواء اكتشفوا انتماءاتهم الطائفية والمذهبية والقومية، وغابت عن منظومتهم كل دعوات المواطنة وحقوق الإنسان التي يدعون إليها!!
أرأيتم ذلك الذي تحدث في العلمانية عقوداً، ثم رأيناه ينزل ليقبل سيده في المذهب أو الطائفة راجياً بركته؟! أرأيتم ذلك العلماني الذي أشبعنا حديثاً عن المساواة، وفجأة صار من أبرز دعاة القومية والتأسيس لدول قومية صغيرة، المهم أن تحوي شعبه الذي اكتشفه فجأة؟!
أرأيتم رجل الدين الذي يدعو إلى التسامح وحوار الأديان، وما شابه ذلك من تظاهرات إعلامية، وهو يدافع عمن يتبعون له من دون أن يكون في ذلك وجه حق؟!
أرأيتم إلى ذلك الذي يتحدث ويتشدق على مدار الساعة عن تعصب الآخر، وعن ضيق أفقه، وعن رؤيته الواسعة في تقييم أبناء المجتمع، وعندما نجد الممارسة فإننا نراها ضيقة أكثر تعصباً للانتماء من الآخرين الذين يشتمهم؟! حقاً أن المتنبي رجل عظيم ويختلف عن غيره عندما قال:
وللنفس أخلاق تدل على الفتى
أكان سخاء ما أتى أم تساخيا
والفرق كبير بين أن تكون النفس سخية طبعاً أو أن تمثل طبع التساخي، إنها لا تلبث أن تعود إلى طبعها في حال تمثيل السخاء، وهذا ما نراه اليوم من أغلب شخصياتنا الثقافية والدينية والسياسية والتنويرية! فكل ما عاشوه وأقدموا عليه كان زائفاً مؤقتاً، تمثيلاً ممجوجاً، لذلك عادوا عنه إلى طبعهم الأساسي في التعصب للمنشأ! ليس من حق المتعصب أن يدعو إلى التسامح، وليس من حق البخيل أن يدعو إلى الكرم، وليس من حق المتشدد أن يدعو إلى فهم الآخر…
مارست أحزابنا السياسية والأيديولوجية التساخي عبر رحلتها لذلك أخفقت، وكانت في كل فاصلة من الحياة تقوم بعملية الإقصاء للآخر، ووصلت إلى حدّ حرمان الآخر حقه في الحياة وكسب لقمة العيش، فحتى لقمة العيش صارت مرتبطة بالانتماء الأيديولوجي، فهل من حق هذه الأحزاب أن تسأل عن سبب إخفاقها وانفضاض الناس عنها؟
وهل من حقنا أن ننظر إلى هؤلاء الناس، وإلى هذه الأحزاب سواء؟! أظن أن الاستثناء هو التنوير، وأن الاستثناء هو الذي علينا أن نتبعه لنصنع مجتمعاً مختلفاً، والسائد هو الذي يمثل وجهة نظر العامة وعلينا أن نتخلص منه بشكل كبير، والمراجعة يجب أن تكون شاملة، وأن تكون مفاجئة وانقلابية في المفاهيم والرؤى، وأن تكون سريعة وحاسمة، فالقوميات والمذاهب والطوائف والديانات لا يتم التعامل معها بشكل تدريجي لأن التدريج ينهي أي عملية في مهدها، ويعود المستفيدون للتمترس!
لست ممن يؤمنون بوجود أيديولوجية دينية أو وضعية معتدلة وأخرى وسطية وأخرى متشددة، فالفكر الأيديولوجي منارات، وعندما تلتقي الأفكار مع مصالح الناس يأخذ الفكر الأيديولوجي إلهياً أو وضعياً صفة التطرف والتشدد، وما يراه أحدهم معتدلاً هو ليس كذلك في حقيقته، وإنما تناغم آرائه مع الناظر جعله يراه هكذا، ومادامت الرؤى الأيديولوجية تخضع لرأي الشارع أو المفسر، فإنها ستلبس لبوس المفسر وتصبح في حالة من التطابق والتماهي معه!
ولكن ما اعتقده هو وجود أناس يتمتعون بالتسامح والوسطية والاعتدال والتشدد، هم الذين يقرؤون ويشرحون ويفسرون، ومن هنا يأتي خطأ من يحكم على شريحة أو طائفة أو مذهب أو جغرافية أو حقبة بالتشدد أو التسامح أو التعصب أو العفو… فكل نكوص إلى المنشأ يكون بسبب فعل خارجي، من اكتشف انتماءه القومي فلإخفاق الأحزاب القومية، ومن اكتشف انتماءه الديني فلإخفاق الأحزاب العلمانية والأممية، ومن اكتشف انتماءه المذهبي فلإخفاق السلطات السياسية والنخب الحاكمة، ولهذا أتحدث عن عملية فكرية انقلابية تأتي على التغيير لدى الجميع، ولا تستهدف جماعة دون أخرى.
ما دفعني إلى هذا ما قرأته للصديق نبيل طعمة في زاوية نشرت في «الوطن» عندما نفى وجود أي بارقة دينية، والحقيقة أنني أوافقه إلى درجة ما، وأعود إلى الطبع والتطبع، والذي لا شك فيه أن النفي المطلق مرفوض، ومن منا ينسى عبد الرحمن الكواكبي وسعيه لتأسيس مفهوم شامل، لكنه تحول إلى ذكرى؟! ومن منا ينسى الإمام محمد عبده الذي كان ثورة، وشرح نهج البلاغة، وأسس العروة الوثقى، فحورب وحوربت رؤاه، وأبعد الناس عنه تحت تهمة الاستخبار والماسونية ليحل مكانه التيار الديني الإخواني؟!
ومن منا ينسى البارقة التي وئدت للشيخ مصطفى عبد الرازق، والتي حاولت التأسيس لدولة مدنية لكنها انتهت، ومحمود شلتوت وغيرهم، والمفتى العام الدكتور أحمد حسون الذي يعبر عن طبعه، ولكنه مع ذلك يقابل بكثيرين ممن يريدون إجهاض مشروع العيش، والعودة إلى التعايش…؟!
إن كل مثقف تنويري يقابل دوماً بالتهم إن كانت بالولاءات والانتماءات أو بالتهم المتعلقة بالحياة والدنيا والمال والسلطة، فينفضّ الناس، مع أن الذي يلقي التهم ليس أفضل حالاً!
المنارات الثقافية بحاجة ماسة إلى الاستفادة منها، ورفع شأن أفكارها لا شأنها، ولو نظرنا إلى ما عرضت من تاريخ بسيط نجد أن الأسباب التي أدت إلى نكوص من نظنهم منارات هي الأسباب التي أدت إلى طمس المنارات التي انطلقت من منطلقات إنسانية تجاوزت اللبوس الديني الأيديولوجي.
نعم صديقي إن المؤسسة الدينية أسهمت فيما وصلنا إليه، لأنها تحافظ على مكتسباتها الدنيوية والسلطوية، ولكن ثمة استثناءات، فهل نعود للاحتفاء بالفكر المتنور طبعاً؟ وهل تطبع أعمال هؤلاء لتوزع مجاناً وتصبح ثقافة؟!
لنبحث عن الطبع، ونترحم على المتنبي الذي اكتشف قبل أحد عشر قرناً طبيعة النفس…

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن