ثقافة وفن

خير جليس وحكايات خارج الزمن الافتراضي … ما يعطيه العصر لا يرضي ولا يوصل إلى الاكتساب المعرفي

| غسان كامل ونوس

منذ أكثر من أربعين عاماً، وفي الأول الثانويّ، كان الموضوع الذي علينا كتابته، بطلب من مدرّس اللغة العربيّة الفارع، يدور حول «خير جليس»؛ تيمّناً بقولة المتنبّي الشهيرة ربّما! كتبت بشغف، وتمثّلت الكتاب رفيقاً، لا تتوقّف لقاءاتنا على المجالسة؛ بل تتعدّاها إلى المشي في دروب ضيّقة متطاولة، وأخرى مبتورة، أنشئت لغاية القراءة، في الحراج القريبة والبعيدة، وعلى طرق السيّارات غير المعبّدة؛ كما «الدراسات العليا!» على السطوح الترابيّة مفتوحة الحواف على خطر الغفلة الوشيك…

لا منافس للكتاب
لم يكن للكتاب المدرسيّ، وسواه ممّا يدور بين القرّاء المسكونين بروايات وحكايات وسِيَر، منافسٌ من جنسه؛ كما «بطل هذا الزمان» الافتراضيّ، الذي يمكن أن يداهم من خارج السياق، وخارج الاستعارة من المركز الثقافيّ، ومن أصدقاء الهجس المشترك؛ تلك التي تلزم بالقراءة والإعادة خجلاً وتعبيراً عن الاهتمام، أكثر من الاقتناء الخارج عن الإمكانية الذاتيّة؛ إلا على نطاق محدود. ربّما كان الشاعر متنبّئاً- حقّاً- بكتاب اليوم الإلكترونيّ، هالاً من «بساط الريح» في فضائه الفسيح، ملِحّاً مجبِراً على المجالسة مع آلة «حدباء»، أو «محمول» عبر جهاز كبر أم صغر!
لم يكن مهمّاً شكل الغلاف ولا لونه؛ هو الذي قد يكون متحلّلاً أو متحوّراً من «كثرة الحاضنين» وإلحاح «التقرّي»، وندرة النسخ؛ وقد يحضر الكتاب من دون غلافه، فيدلّ عليه فحواه، الذي يُتابَع، ويُستظهَر، ويسترجَع، مع من سبق، وما يشير إليه التداول إلى من لحق، وقد تغيب معه صفحات من بدايته أو نهايته (بدأت بقراءة كتاب كبير، منقوصاً عدداً مهمّاً من الصفحات و«الليالي»؛ من دون أن أعلم أنه «ألف ليلة وليلة»!)؛ ولا نحسّ بالخسران كثيراً؛ فلم يكن مدعاة للاهتمام اسم الدار الناشرة على قلّتها، ولا عدد النسخ، والصفحات، ولا الـ«فهرست»، التي علقت على الألسن للمبالغة والتندّر ربّما؛ على حين بقي التساؤل عن الحرف (م)، الذي يتكرّر مرّات في زوايا صفحات غير متتالية، عالقاً إلى مرحلة متقدّمة، من التعامل الجدّي مع الكتابة والطباعة! ولم تكن الحروف والخطوط مميّزة، سوى في العنوانات، التي تكاد تنفرد بها واجهات الكتب؛ فلا خيار محيِّراً أو منفّراً في الأشكال والألوان، ولا رسومات أو صوراً للزينة في الداخل والخارج، وتكفي حضرة الكتاب مجلّداً من مورده، على ندرته، أو في جِلدته المستجدّة حماية ورعاية، زينةً وتفاخراً وغنى، «لا يُلقّاها» إلا كلّ ذي تساؤل وقلق ووسواس، أو «كلّ ذي حظّ عظيم»؛ فلا تدهشْ من الساعين إليها، رغم الحاجات الأشدّ ضغطاً، والمتطلّبات الأكثر ضراوة، ولا تعجبْ من «راغب في ازدياد»!

حميمية الكتاب
لا ريب في أن للكتاب الورقيّ جاذبيّته وسحره؛ فلا تستطيع التغافل عن قربه، ولا عن ألفته، وحميميّة العلاقة معه، تلك التي تصل حدّ الاحتضان، ما قبل الرقاد، وفي ثنايا الوعي المتّقد؛ ما قبل الطعام، وخلال الطقوس العفويّة، مع سوائل منعشة، ومن دونها؛ فللكتاب كيان مادّي: شكل وأبعاد وألوان؛ وأطياف تخرج منه إليك، تحوم حولك، تطوّف بك إلى ما هو أغنى من معلومة، وأسمى من إحساس، وأعذب من نشوة؛ وتعيدك كائناً آخر، مجرّباً، متغرّباً، على الرغم من أنّك لم تبرح حيّزك المحدود؛ مكتنزاً حيوات وفصولاً، بسنيك المعدودة، ومُكْتَنِهاً معارف وأسراراً بملَكاتك التي تتعالى وتتجاسر، حتّى على «ما لم تستطعه الأوائل»! ولا يحتاج التعامل بينكما إلى وسيط؛ فالأريحيّة والتعوّد وانعدام الرسميّات، تتيح إمكانية اختيار الحال المناسبة للتواصل؛ وقوفاً، أو تدرّجاً غير معثِر؛ توسّداً ما خفّ أو خشن، وجلوساً كما في حضرة مقدّرة. أنت وهو والعوالم معكما، ولا تحتاج معه إلى مساعدة أو دليل؛ وما يضيئه، هو ما يضيء كلّ شيء في الطبيعة، وتنعكس من على صفحاته الأشعّة، ومن كلماته وحروفه، وممّا بين السطور وما وراءها، تنتثر الملامح والمعاني، وتتماوج الخيالات والأحاسيس، وتتوهّج الأوقات أو تنوس، مع نفاد زيت السراج، أو وهن فتيله، مع امتداد ساعات الليل، حتّى يكاد يدركك الصباح، فتسكت عن تلقّف الكلام المباح، وتخيّل غير المباح، متمنّياً أن يكون من يمكنك مساررته، قريباً، أو أن تكون من تغرق في مناجاتها قادرة على سماعك، لتشرع في الإفصاح أكثر!

مشاركة حواس عدة
يمكنك معه الاستمرار بلا توقّف غير محسوب، أو قلق الانقطاع المفاجئ، أو النضوب الوشيك، وتتحفّز حواسّ أكثر للمشاركة؛ الرؤية القريبة التي لا يعكّرها سوى انسدال العتمة، أو حرحرة من دخان المدفأة العنيدة؛ واللمس المتّصل، والقبض بالوقائع المشهودة؛ والشمّ المعتّق، مع مواكبة عبير التفتّح، وعطور الأوراد في فتحاتك المشرعة، رغم مشاكسة روائح الكاز، والشحّار الذي يخلّفه دخان آخر في الجيوب الأنفيّة؛ والسمع ليس من إيقاع قراءة صائتة، وأصداء مطالعة صامتة فحسب؛ بل من وقع تقليب صفحات، حفيفاً يتواتر حسب حماستك لمعرفة المزيد، أو تركيزك فيما عقدت العزم على فهمه، وعتق الكتاب، الذي لا يقلّل من أهميته؛ فلولا قيمته، ما تكاثرت الأصابع عليه، وما ازداد طلابه ومريدوه؛ كما لمتعة الكشف لهفة التعرّف إلى الجديد، والاحتفاء به، وتعميمه.

الكتاب تخيل وتأمل
ويمكنك مع الكتاب أن تتخيّل، وتتأمّل، من خلال عباراته، وأسلوبه ومنحاه. يشاغلك عن كلّ ما عداه، ويأسرك بحضوره المادّيّ والمعنويّ، وله مكانته في ذاتك وشعورك، وله مكانه القريب الذي يشغله، حتّى من دون رفوف، وله معارِضُهُ التي تمثّل مناسبات اجتماعيّة ثقافيّة إنسانية مهمّة. ومنه الحافز والحماسة للانطلاق إلى كتب أخرى وحيوات أخرى، أو فصول جديدة أكثر تفتّحاً فيها، ولا يحتاج إلى مؤثّرات أخرى؛ وإن كان الأمر اختلف قليلاً، وكثيراً أحياناً، بعد تقدّم تقنيّات الإخراج والتنضيد والتنسيق والطباعة، ودقّة التصوير وفرز الألوان، فصار للغلاف مصممّون ومخرجون، وللصفحات والخطوط أشكال وألوان.. ما جعله يقترب أكثر من الحال الافتراضيّة التي يظهر بها الكتاب الإلكترونيّ، وهناك ظروف أخرى تدفع بهذا الاتّجاه، ليست في صالح الكتاب الورقيّ؛ كلفة الطباعة العالية، التي ترتفع باطّراد، والنقل وإشكاليّاته؛ ولاسيما عبوره الحدود الممنوعة عليه أحياناً، والمتاحة حتّى للممنوعات التقليديّة والمستحدثة الأشدّ فتكاً! كما أنه يحتاج إلى أمكنة واسعة للحفظ والتخزين. ويتطلّب تعديله أو تطويره إجراءات عديدة؛ منها إعادة الطباعة والتوزيع، وصرف مبالغ جديدة؛ مع أن هذا يجعله مرجعاً أميناً، ووثيقة يصعب تحريفها أو تزويرها؛ وهناك مشكلة الزمن، الذي يتسارع أكثر ممّا يستطيع الكتاب الورقيّ مواكبته، والمعارف التي تتنامى، وتتركّز، وتتفرّع؛ فيشقّ على الكتب استيعابها أو احتواؤها، وإيصالها إلى من يرغب؛ فالبطء في التحرّك، والتأخّر في الوصول، والعثرات الأخرى التي لا يتورّع أعداؤه عن افتعالها، ولا يسعى اللامبالون إلى تذليلها، والنكران من اللاهين عنه، اللاهثين خلف اهتمامات أخرى يقذفها العصر، ويبهرجها، ويلقيها في وجوهنا وسبلنا.. كلّ ذلك وسواه من عجلة وتشتّت وانهماك واهتلاك، في سبيل استهلاك سريع، وتأمين ما يُقيت، ولا يُشبِع، يُسكت ولا يُرضي، يثير ولا يوصل إلى الانتشاء.. يجعل الظروف ليست في مصلحته!
فالتصفّح، الذي جاء اسمه من التعامل مع صفحات الكتاب، صار مقصوداً به متابعة صفحات لا كالصفحات؛ فهي تحمل ما قد يزيد عن مكتبة! وتستعرض في وقت قصير، فلا تعمُّق، ولا تركيز، ولا تأمُّل، خوفاً من توقّف مفاجئ في «الشابكة»، أو تعطّل في جهاز مستحدث، أو تحديث في أسلوب عرض، تحتاج معه إلى إمكانيّات أخرى أكثر مهارة وآليّة وقلقاً، لِما قد يفوتك من أقوال وتعليقات وعروض سطحيّة؛ وصار الهمّ الوصول إلى ما يعرض، لا البحث عمّا تريد! وصارت حواسّك المتعاملة مع أجهزة صمّاء رغم انفتاحها على الأحدث والأبعد والأبهر، أقلّ ضرورة، وأضعف تحسّساً؛ فالرؤية المطوّلة واخزة بإضاءة مصطنعة، والبُعد مهيمن، رغم القرب الواهم، والعناصر أقلّ بوحاً وحيويّة، وأكثر عرضاً وإثارة وتفصيلاً، وأسرع من قدرتك على التركيز والتمييز والإحساس، وتشكيل رأي، واتّخاذ موقف؛ وهو المطلوب!

الكتاب الورقي والإلكتروني
لا شكّ، إذاً، في أن الحال مختلفة في التعامل مع الكتاب الإلكترونيّ، الذي يمتاز بسهولة الكتابة والنشر والتعديل والتطوير، وهذه صفات حسنة تشوبها إمكانية السرقة والتحريف؛ أمّا ميزته الأساس، فتتمثّل في سرعة الانتقال الخرافيّة، واطّلاع عدد أكبر من المتلقّين في أقاصي الدنيا في أي وقت، وفي زمن قياسيّ، مع الاطمئنان إلى وجوده المأمول في مكان ما، رهن بحث آليّ، أو عرض سارّ بمفاجأة غير متوقّعة (منذ أيام، أغبطني عرض أحد المواقع الافتراضيّة تحميل روايتي الأولى «المدار»، الصادرة عن وزارة الثقافة في العام 1994م بيسر وسرعة، وبلا ثمن!)؛ كما يمتاز الكتاب «الافتراضيّ» بقدرته على تفادي الملاحقة والإلغاء، وتجاوز المطبّات والحواجز الواقعيّة والنفسيّة، والوصول إلى من يشاء، ولا تخاف أن تفقده طويلاً، أو أن تصيبه عوارض الطبيعة، التي تصيب بني البشر؛ من بلل وتشوّه وإهمال وتقادم… فهل يعوّض هذا كلّه وسواه عمّا نفتقده من تلك العلاقة الخاصّة بالكتاب الورقيّ، الذي تغيّر هو الآخر، ولم يبق على الشاكلة نفسها؛ ولا المضامين عينها، التي تنوّعت وواكبت العصر ومتطلّباته، تلك التي تقترب من الإعلان شكلاً وعرضاً، وموضوعاته، ما استجدّ منها، وتعمّق أو تسطّح، تجدّد، وتطرّف؟! ألم نتغيّر نحن أيضاً باهتماماتنا وانشغالاتنا؟! أليست أفكارنا وموضوعاتنا، تلك التي نهتمّ بها، ونسوّق؟! وهل ما نزال نحنّ إلى ما كان بالدرجة نفسها؟! والسؤال الأصعب هو: هل لدى الأجيال الجديدة، التي اعتادت ما لم نكد نعرفه، وباتت رهن تقانة الأجهزة الحديثة، وإمكانيّات الوسائل المغايرة المتجدّدة المتسارعة، ما لدينا من مشاعر تجاهه؟! وهل هذا ضروريّ في هذا العصر، الذي اختلفت فيه المعايير والقيم، وتنشغل كائناته حتّى عن الأنفس ومتطلّباتها، فكيف يصمد «خير جليس» أمام الإغراء بالأسهل والأسرع في التناول، حتّى من دون هضم، أو من دون ذائقة حقيقيّة؛ هذه التي تكاد تُفتقد، وتفتقد معها خواصّ مهمّة عديدة أكثر إنسانية!!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن