الطرب الأصيل والطرب الدخيل…هل زال الطرب الأصيل بزوال المستمع إليه؟
أنس تللو
الطرب لغة عالمية تتجاوزُ الحدود… إنه لغة سامية ؛ لغة راقية جداً… بل هو أم اللغات جميعاً… على أن الطرب حالة نفسية فريدة لا يتأتى للمرء أن يصل إليها إلا إذا كان هو نفسه يتمتع بصفات متميزة، ترأسها صفة الاستماع الحسن…
ولا بد من الإشارة إلى أنه ليس الأصيل هو القديم، وليس الدخيل هو الجديد، وإنما الأصيل هو ما لامس الأصالة الإنسانية التي فطر الإنسان عليها منذ نشأته الأولى، وعلامته أنه يلقى الإعجاب الأكبر من جميع أنواع الناس في مختلف أنحاء الأرض، وفي كل الأزمنة ولكن بنسب متفاوتة ؛ ويكون هذا أشبه بالفن الخالد، أما الدخيل فهو الذي ينافي القواعد النظامية الثابتة ومعايير الجودة الفاحصة بكل المجالات… والطرب الدخيل قد يطرب الناس لأسباب أخرى لا ترتبط بالأصالة الإنسانية.
ولا ننسى أن للكلمات دوراً كبيراً في الطرب وليس الألحان فقط… وسابقاً كان لا يدخل أحد سلك الغناء أو الفن إلا بعد تدقيق شديد ؛ فقد كانت هناك لجان صارمة تدقق على الكلمات وعلى الأصوات وعلى الألحان.
إن الموسيقا فن طبيعي فطري، وإن الملحن إنسان مرهف حساس يعكس مشاعره وأحاسيسه بألحانه، فيخاطب المستمعين خطاباً واضحاً بتلك الألحان يسمعه ويدركه أهل الفن الأصيل ؛ فهو تارة يبكي وتارة يضحك وتارة يتذكر وتارة ينسى. إنها لغة متكاملة يدركها أصحابها ويستمتعون بها.
وهذا هو الفن… هذا هو الطرب الأصيل… الطرب الأصيل، طرب عظيم ؛ لأنه يذكِّرنا بعظمتنا نحن… يجعلنا نكتشفُ أنفسنا، لنعيَ من أين جئنا.. وإلى أين نذهب، ومن نكون… الطرب يشفي… والطرب يطهر… والفن الراقي لا يراه إلا الراقون… الفن يجمع بيننا… بل هو يجمع بين الناس جميعاً. إنه ملتقى الشرق والغرب.
الطرب الحقيقي الأصيل هو بما يثيره في نفس المتلقي من شعور بالفخر أو بالزهو أو بالحماس…
الطرب فن، والطرب علم، والطرب موهبة… الطرب حياة جديدة وعالم ثانٍ، الطرب كلمة ولحن وحنان وإبداع… فإذا نقص من ذلك شيء لا يكون طرباً…
الطرب الأصيل مثل الطعام الذي أُتقن صنعه، وتفنَّن صانعه في إعداده، فغدا منظره يسلب أنظار الناس، وأصبحت رائحته الزكية تشد الأنفاس، يتناوله المرء فيقدم له متعة وغذاء وفائدة… والطرب الدخيل كالوجبة ( الجاهزة ) لها رائحة ولها منظر وطعمها لذيذ لكنها في الحقيقة لا تسمن ولا تغني من جوع ؛ فضلاً عما تحمله من أضرار جسيمة.
ولقد ولَّى أو كاد زمان الطباخين والمطربين الأصلاء، وحضر زمان البدلاء…
ولماذا يظهر المطرب الأصيل… من سيستمع إليه… زال المطرب بسبب زوال المستمع… وبالتالي كيف نطلب من الجيل الجديد أن يحب السنباطي مثلاً، ولا يوجد حالياً سنباطي.
كان الطرب نشوة وتمايلاً وشعوراً راقياً هادئا ؛ فغدا رقصاً قي المدرجات ووقوفاً على الكراسي وتصفيراً، وتلويحاً بالمعاطف والأكمام… وصياحاً ونواحاً.
كان تصفيقاً حميماً للحن جديد، وشهقات متولهة لمعنى بديع، فأصبح صخباً وضجيجاً…
يفتقر معظم مطربي هذا الأيام إلى أن يكون موهوباً بالفطرة، إذ أكثرهم مصنوع صناعة أو مكتسب اكتسابا، لذلك فإن مهمة الطرب الدخيل باتت سهلة لينة، إذ لم تعد الأغنية الدخيلة تحتاج إلى تلك الكلمات الرصينة والتعابير الرزينة التي تأخذ بالعقول وتذهب بالألباب، ليرقص القلب طرباً على أنغام الطبيعة، وتتيه النفس نشوةً على ألحان قيثارة الزمن، وإنما أصبحت أية كلمات وإن كانت ضعيفة المعنى تنظمها أية ألحان وإن كانت ضائعة المبنى، يرددها أي ( مطرب أو مطربة ) قادرة كما يظن البعض على إطراب المستمعين ؛ ولاسيما بعد أن تَعتبِر بعض الأوساط الفنية غير الملتزمة واضع تلك النغمات الباهتة ملحناً، وكاتب تلك الكلمات الفجة شاعراً، ومردد تلك الزوائف المقيتة مطرباً مبدعا، تدعمها في ذلك بعض المجلات الفنية التي لا ترقى إلى مستوى الحديث عن الفن بمعناه الحقيقي، والتي لا تحمل معايير حقيقية لتقييم الفنانين الموهوبين، ولا ننسى الدور الأكبر الذي تقوم به أجهزة الصوت المتطورة في هذا العصر ؛ تلك الأجهزة التي تمتلك طاقة كبرى تتجلى في المقدرة على جعل الصوت يبدو رخيماً، وإن كان في الأصل قبيحا، وعلى الطيران به في الأصقاع، وإن كان يخدش الأسماعْ.
فأين أولائك المطربون الذين كانت تصدح حناجرهم بهذا الشعر العذب الرقيق، ترافقهم ألحان الموسيقا الأصيلة…
الطرب الأصيل حالة لا تعرفها أجيال اليوم، لأن أحداً منهم لم يعاصرها، والوصف مهما كان دقيقاً، لا يرقى أبداً إلى الرؤية والسمع…
واليوم لعله من المؤسف أن نقول إن استماعنا المتواصل لهذا الفن المتكلَّف، ورؤيتنا المستمرة لأولئك المطربين المصنوعين ؛ جعلت بعضنا ممن سيطرت المادة على عقولهم يألف ذلك الفن ويستحسنه ويرتضيه…
بل لقد قام أقوام منا فأمعنوا النظر بهذا الذي وصلنا إليه، وتأملوا هذا ( الهرج والمرج )، فوجدوا فيه مرتعاً لهم وموئلا، وظهر منهم منتجون ومستفيدون فصنعوا لنا برامجَ سخَّروها لخدمة هذا الفن البديل، وسعوا جاهدين من أجل الترويج له، فاستجابت أجيال منَّا وأقامت نواديَ ومجالس ومراتع لهذا النوع من الفن…
وهكذا سوف يزول من مجتمعنا عهدٌ من الطرب الأصيل زال مطربوه وملحِّنوه ؛ سيزول قريباً بعد أن يزول محبُّوه ومستمعوه…
إنه لمما يؤسفني أن أقول إنه قد غاب الرقيب أحياناً، وتاه الدليل…
وبعد: مازال في مجتمعنا قلة قليلة بقيت تحتفي بالفن الأصيل، إلا أن المؤشرات تدل على أنه ستأتي أجيال قادمة من أبنائنا تنكر الفن الأصيل كل الإنكار، ولعلها ستعتبر وقتئذٍ أن مجرد الحديث عن رقي الفن وعظمة الكلمات وبراعة الألحان ضربٌ من الجنون، تماماً كما اعتبرت الكثير من القيم القديمة تخلفاً، والأخلاق الأصيلة انحرافا.
أحقاً أن كل ما نسمعه اليوم هو موسيقا؟
ألا من عودة إلى أصالتنا الراقية التي أعطتنا فأهملناها، وأتحفتنا فنسيناها؟
عندما كان الفن الأصيل يتطلب إبداعاً حقيقياً كان يقِلُّ العدد، كان يظهر في كل خمسين سنة مطرب واحد ( أم كلثوم، محمد عبد الوهاب )، أما عندما تستشري الفوضى لسبب ما، وتنسحق القواعد الصارمة لغاية ما، وتتلاشى الأذواق الرصينة، فإن العدد يكثُر جداً حتى ليكاد يظهر في كل يوم خمسون مطرباً…
فسلاماً عليك أيها الفن الراقي الأصيل، ووداعاً لكِ أيتها الألحان الشجية، وأيتها الكلمات البراقة، ورحمةً لكم أيها الشعراء العظماء…