ثقافة وفن

يوسف جاد الحق بين القصة القصيرة والقصيرة جداً … «المستقبل الذي مضى» تنوع في المواضيع وفي أساليب القصّ والبداية لفلسطين دوماً

| عامر فؤاد عامر

يفرد لنا القصصي د. «يوسف جاد الحق» كلماته المتجددة في المجموعة القصصية «المستقبل الذي مضى» في 22 قصة قصيرة، حملت الكثير من الأفكار والمشاعر المتمازجة لتقدّم لنا لوحاتٍ جميلة مشوّقة ابتدأها في 3 قصص من فلسطين وهي دلالة على تعلق الكاتب بتراب بلده وعشقه لها وحنينه الدائم إلى ذلك الوطن الجميل، والتأكيد على يوم العودة.
ورد في الحكاية الثانية «الطريق» مقطعٌ مؤلم لكنه يختصر شيئاً من المرحلة الحالية التي نمر فيها على الرغم من أن نشره كان في العام 2007 أي قبل الحرب التي ألمّت بسورية، وفي المقطع: «ذاك هو العدو يتربص بي من كل جانب حتى في هذا المكان النائي. الخوف يكتنفني، والفقد يكسر القلب… إلهي ماذا بعد والدنيا بأسرها غافلة عنا غير آبهةٍ لما حلَّ بنا فيما مضى وما يقع لنا الآن». ذلك المقطع اللافت للانتباه لا يحتاج إلى تعليق فهو يلامس الوجدان والمشاعر التي حلّت بنا وسيطرت على البعض في السنوات الأخيرة.

يتجاوز الكاتب «يوسف جاد الحق» في أسلوبه القصصي الزمن في كثير من مشاهد القصّة، بل يتجاوز المكان بسرعة بالاتفاق مع القارئ، فيتم حذف هذه المشاهد وتجاوزها لتتصل المشاهد المتبقية إبرازاً للفكرة والنتيجة التي أراد لنا أن نصل إليها مع قصّته. وهذا التجاوز المدروس منح القصص تشويقاً جيداً. ونلامس هذه الملاحظة في معظم القصص كما في «مقطع من فلسطين»، و«الجار السابع»، و«صحوة الضمير»، وغيرها.
يستخدم الكاتب بساطة السرد، ويستخدم التراكيب اللغويّة المفهومة للقارئ، باجتهاد وتنسيق جميلين، فتكون أجزاء القصة مفهومة ولا لبس فيها ولا غموض يجتاحها من المقدمة إلى الخاتمة. لكن بعضاً من قصص هذه المجموعة جاء بشيء من الرمزيّة المحببة لكنها بعيدة تماماً عن الغموض أو اللبس في المعنى، ونلاحظ كلّ ذلك في قصص: «وليد يرضع دماً»، و«أحلام غير بريئة»، و«الخراف»، و«الجهل نور أحياناً»، وغيرها.
انتقينا بعض هذه القصص لجمال نسجها اللغوي والفكري، ففي قصّة «وليد يرضع دماً» هناك مزجٌ للألم ومشاعر الحبّ والشرف والكرامة، وحملت القصة ميزاناً واضحاً للمقارنة بين خصمين هما النبل والحقّ والآخر هو الرذيلة والاغتصاب، أمّا في قصّة «خراف» فكانت الصدمة أن هذه القصة خرجت عن الإطار المألوف الذي زجّنا به الكاتب في القصص الثلاث الأولى، والقصّة «خراف» فكرتها ذكيّة، والموازنة الفكريّة فيها سهلة وعميقة معاً، لكن الانتقال من الواقع الحلم ربما يحتاج إلى معالجة بسيطة إذ إن عنصر المفاجأة هنا كان بين حالة التعاطف التي أبداها بطل القصّة مع الخراف المذبوحة، ضمن يومياته، وبين المجادلة والدفاع عن بني البشر وحقهم في ذبح الحيوانات في المنام الذي حصل معه! إلا أن هذا لا ينفي الإسقاط المهم الذي حملته هذه القصّة، فمعاشرة الحيوانات تكون شرفاً للإنسان عندما تجري الحروب ويستشرس بنو البشر في التعامل مع بعضهم، وهذه النتيجة تقودنا فوراً إلى قصّة «أحلام غير بريئة» والتي تتلاقى مع قصّة «الخراف» في المغزى نفسه تقريباً، أو بصورة دقيقة في أحد المغازي.
حملت قصّة «أحلام اليقظة المزيد من الجمال والتوعية، فهي تحمل إشارة وغمزاً لفكرتي المسؤوليّة واللامسؤليّة، وبين هذه وتلك الكثير من الميزات والمطبّات التي أوضحتها القصّة بكلّ سلاسة والتي تحاكي النفس البشريّة، وتجعل من المرء يزج نفسه في المقارنة وأي من الطرفين هو الأفضل. أم «الجهل نور أحياناً» فقد حملت إغراقاً في التفاصيل والمقدرة على الإضحاك، وموازنة بين اهتمامات المرأة والرجل، وهذه حقيقة علميّة، فالمرأة تهتم بالتفاصيل تبعاً لفيزيولوجيّتها المختلفة عن الرجل، فهي أكثر اهتماماً بالتفاصيل وتسير نحو هدفها بهدوء، في حين أن الرجل يهتمّ بالهدف والخطوات السريعة. جماليّة القصّة تكمن في عنصر المفاجأة المتضمّن في خلال ردّ فعل الزوجة ورميها للأغراض التي اشتراها الزوج من شباك البيت إلى الشارع، ليكون الهدف نجاحاً غير مقصود للزوج، وهو عدم السماح له بشراء أدوات الطبخ، بل إيكال هذه المهمة الصعبة عليه للزوجة فقط، وهنا يربط القارئ نهاية القصّة بعنوانها «الجهل نور أحياناً».
يشي عنوان قصّة «حكاية صديقي الناقد» بأن هناك شيئاً مخبأ بطريقة ذكيّة في الوصف والسرد والبحث في جوانب شخصيّة «الصحفي الناقد» صديق الكاتب، ولا بدّ أن كثيراً من الانتقادات التي تكرست لدى الكاتب حول معاشرته لهذا الصديق، والذي يبدو خاصّاً بطريقة غريبة، ولا بدّ أن الكاتب يوافقني الرأي بأن هذه الشخصيّة مُحبَطة ومُتعَبة، وما نوى إليه الكاتب هو تناولها بتجريد وتحليل خارجي لكن له مدلولاته الداخليّة أيضاً. وهنا تتولّد فكرة لدى القارئ وهي أن مهنة ذلك الصديق هي النقد والكاتب وضعه تحت مُجهر النقد أيضاً، وهنا تبدو اللعبة أجمل في هذه القصّة التي تحمل لغة من التحدّي والإنصاف، فالنقد فنّ العمق أمّا التعلق بالمظهريّة والصور الشكليّة لا بدّ أنها تبعد الشخص عن هذه المهنة الحادّة.
يبدع كاتبنا أيضاً في الوصف ضمن قصة جديدة هي «الجار السابع» فيصف تفاصيل خاصّة بهذا الجار، كما في قصّة صديقه الناقد، ولكن في لغة هذه القصة استخدام لأسلوب له علاقة بالمزج بين المخاطب والغائب، فيحسب المرء نفسه يستمع لصوت الكاتب مباشرة وهو يقصّ عليه تلك القصّة. كذلك في قصص أخرى مثل «قراءة بالإكراه»، و«صديق الأفاعي»، وغيرها.
احتوت المجموعة أيضاً نوعاً آخر من القصة وهو ما اعتمد تسميته قصصاً قصيرة جداً فكان فيها القصص: «لقاء»، و«إيثار»، و«انفصام»، و«أريحيّة»، وهي القصص التي ختم بها مجموعته هذه. يذكر أن المجموعة القصصية من مطبوعات اتحاد الكتاب العرب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن