ثقافة وفن

على الرغم من رحيله: شبح محمود درويش يلازم الإسرائيليين … ما أجمل الشام وفي الشام يبتدئ الزمن العربي

| مها محفوض محمد

سيبقى الشخص الذي يرعب إسرائيل
«أيها الموت انتظرني خارج الأرض
انتظرني في بلادك، ريثما أنهي
حديثاً عابراً مع ما تبقى من حياتي
يا موت يا ظلي الذي سيقودني
يا ثالث الاثنين يا لون التردد في الزمّرد والزبرجد»
لم ينتظره الموت الذي راوغه سنوات ولم يضع أدوات صيده تحت نافذته والمفاتيح الثقيلة فوق الباب- كما طلب منه- ريثما يستعيد صفاء الذهن في الربيع ويكمل دورة الجسدين في جسد بل كان الموت صياداً غير شريف اصطاد الظبي قرب النبع.
كم حاور الموت ولاعبه في أكثر من ديوان فأطال الحوار وقدمه جمالياً كما فعل في الجدارية التي قال عنها: إنه كتب معلقته.
محمود درويش الذي تجذر في الوجدان العربي وأصبح حالة شعرية متفردة سيبقى صوته يصدح في الذاكرة ويطلع علينا من قلب مآزقنا وأزماتنا ولربما كان سيعبر عن «حالة حصار» يعيشها هذا الوطن الذي تحاصره المأساة وتغرقه الدماء وقد يتوجه إلى دمشق ليقول لها:
دمشق انتظرناك كي تخرجي منك
والحب جاء فجئنا إلى الحرب
نغسل أجنحة الطير بين يديك… دمشق الندى والدماء… دمشق الزمان دمشق العرب
ما أجمل الشام وفي الشام يبتدئ الزمن العربي وينطفئ الزمن الهمجي.
درويش الذي أصبح شعره ملحمة الحياة العربية الحديثة تجاوز حدود المألوف وتحول إلى رمز بل إلى أسطورة لأنه بنى عالماً أسطورياً في الشعر تمازجت فيه حكايات الشعوب فانتقل بذلك إلى التجربة البشرية الأشمل ودخل في روعة الشعر الإنساني الخالد وكان بارعاً في ابتكار دروبه وأساليبه وقد أساء كثيرون فهم ذلك فظنوا أن محمود درويش تخلى عن شعر المقاومة فجاء رده بقطعة شعرية عنوانها «اغتيال» وجهها إلى النقاد خاصة بالقول:
يغتالني النقاد أحياناً: يريدون القصيدة ذاتها/ والاستعارة ذاتها
فإذا مشيت على طريق جانبي شارداً/ قالوا لقد خان الطريق
وإن عثرت على بلاغة عشبة/ قالوا تخلى عن عناد السنديان
وإن رأيت الورد أصفر في الربيع/ تساءلوا أين الدم الوطني في أوراقه
وإذا كتبت هي الفراشة أختي الصغرى/ على باب الحديقة حركوا المعنى بملعقة الحساء
وإذا نظرت إلى السماء لكي أرى/ مالا يرى/ قالوا تعالى الشعر عن أغراضه.
وفي سياق نصوصه الإبداعية لا يفقد شعر محمود درويش شيئاً من شعريته الإنسانية العميقة خلال ترجماته إلى اللغات الأخرى فقد ترجم ديوانه «في حضرة الغياب» إلى الفرنسية مؤخراً تزامناً مع السنة العاشرة لصدور الديوان (2006) كتبت عنه صحيفة لومانيتيه (الناطقة باسم الحزب الشيوعي الفرنسي) تحت عنوان «بأعمالهم تستمر حياتهم» تقول: إذا كانت أعمال الكاتب غير عادية فإن الحوار يبقى مستمراً بينه وبين قرائه بعد رحيله جيلاً بعد جيل وعلى مر الزمن يستعيد النفَس مع طرح قضايا جديدة، والشاعر الكبير محمود درويش أنموذج لذلك، فكتابه ما قبل الأخير «في حضرة الغياب» كتبه وكان يعلم أن الموت يطوف من حوله بعد عمليتي قلب أجريتا له فيتوجه إلى ذاته مخاطباً: «أنت إلى حياة ثانية وعدتك بها اللغة في قارئ قد ينجو من سقوط نيزك على الأرض، وأنا إلى موعد أرجأته أكثر من مرة مع موت وعدته بكأس نبيذ أحمر في إحدى القصائد».
يقف الشاعر في مفترق طريق ليتميز عن صنوه فهناك ازدواجية أو «تثان» أكثر تعقيداً وعلى طول الكتاب فإن ما يتعلق بالحدث وموطن الخيال يمر من أحدهما إلى الآخر من ذاك التي يعاني من الأحداث في جسده وفي قلبه إلى ذاك الذي يبتدع عالماً مع الكلمات والعكس بالعكس وتتابع الصحيفة: «في حضرة الغياب» يسرد ليس في صيغة تسلسل تاريخي إنما ضمن تقاطع بين الحاضر والماضي لوقائع محددة: تدخل الجنود المسلحين، الدبابات، الجوع، البرد، المنفى وفيما بعد السجن ثم النزول في صالة انتظار في مطار عندما ترفض جميع التأشيرات أثناء العبور… استذكار أماكن باقية في الذاكرة الجمعية للمآسي والجرائم كالتي حصلت في صبرا وشاتيلا… العودة المسموح بها إلى الجليل، عناق الأم أمام الكاميرا.. حالة الهذيان في المشفى بعد التخدير.. حياة محمود درويش هي الموضوع في تعابير خاصة لسيرة ذاتية وجمعية تنطلق من الخبرة الشخصية وترتبط بالتاريخ ليس تاريخ فلسطين فقط إنما بتاريخ العالم كله فهل هو نثر أم شعر؟
الاثنان معاً لأن محمود درويش يقف على الذرا بين الاثنين، وعلى موقع الناشر وضع الكتاب مع فن الرواية لكن المكتبة لم تخطئ تصنيفها فقد رتبته على رفوف الشعر.
فالشعر حالة من حالات الكتابة وبحسب تركيب الكلمات يخلق حالة تواصل بين الذات والكون من الأكثر قرباً إلى الأكثر بعداً وفي أسوأ اللحظات هو «فعل حرية».
– على الرغم من رحيله ما يزال شبح محمود درويش يلاحق الإسرائيليين.
وتحت هذا العنوان كتب الصحفي الإسرائيلي جدعون ليفي منذ أيام في صحيفة هآرتس مقالاً تداولته الصحافة الفرنسية يقول فيه: ما زال محمود درويش يلح على أن الإسرائيليين لا يريدون الاعتراف بأن الخطيئة الكبرى التي ارتكبوها كانت في قيام دولة إسرائيل عام 1948.
إن شبح الشاعر درويش لن يتركنا أبداً فهو وبشكل دوري يطاردنا بأشباح وشياطين تنفلت من شعره مثيراً قلق الإسرائيليين وإزعاجهم إلى درجة أنهم ذهبوا لتشبيهه بهتلر وإن هدأ ذلك بعض الأحيان لكنه يعود مجدداً ولا سبيل للهروب فلن يتركنا أي من أشباح حرب 1948 حتى نعترف بجريمتنا ونسلم بخطيئتنا ونتحمل مسؤوليتنا بتقديم الاعتذار ودفع التعويضات إلى أن نغير ذواتنا ومن دون ذلك فإن الأشباح ستواصل إزعاجنا ولن تترك لنا فرصة للراحة والطمأنينة.
يقول ليفي: الفضيحة الأخيرة التي تسبب بها درويش لدى قراءة مقاطع من شعره في الراديو لهدف تعليمي أثارها وزيران جاهلان هما وزيرة الثقافة ووزير الرياضة انضم إليهما وزير الدفاع ليبرمان والذين أشك أنهم لم يقرؤوا يوماً شيئاً من شعر محمود درويش فيخرجون في حلقة تلفزيونية ويتهجمون عليه وهم يعرفون أن درويش يضرب على أعصاب الإٍسرائيليين ويجعلهم مجانين في كل مرة لذلك فهم يحاولون دائماً إخفاء صوته وحجبه بأي وسيلة بالكذب بالمنع لكن من دون فائدة، فالشاعر محمود درويش يلامس خطيئتهم الأولى ويكشف عن الجرح الكبير وهذا ما يجعل منه هتلر وأنه تجاوز حدوده فإذا كان الإسرائيليون مقتنعين بأنهم لم يرتكبوا الخطيئة ولم يتسببوا بالجرح النازف فلا داعي للخوف من شعره.
لكن الشاعر الراحل يؤكد دوماً تذكيرهم بالخطيئة الكبرى بإنشائهم دولة إسرائيل والتي ترافقت بجرائم لا تغتفر بالتطهير العرقي في مساحات كبيرة من أرض فلسطين ويتابع ليفي: ولن يستطيع الصندوق القومي لليهود أن يغطي الخراب الأخلاقي الذي قامت إسرائيل على أنقاضه وألف شهادة من التاريخ نهرب منها ونتجنبها كما نتجنب النار لا تعادل سطراً واحداً من إحدى قصائد درويش كقوله:
إلى أين تأخذني يا أبي؟
إلى جهة الريح يا ولدي
من يسكن البيت من بعدنا يا أبي؟
سيبقى على حاله مثلما كان يا ولدي
ويستشهد ليفي بأبيات كثيرة لدرويش منها:
في كوخنا يستريح العدو من البندقية
أيها الغريب ما زالت فناجين القهوة على حالها
هل تشم رائحة أصابعنا على الفناجين؟
ويقول لسوء الحظ فقد رحل درويش مبكراً، ففي عام 2008 كانت نهايته لكنها لن تكون نهاية شعره ويكفي أن نسأل ريجيف وليبرمان ونقول لهما: إن عام 1948 تاريخ مضت عليه سنون لكنه كشعر محمود درويش لم ينته ولو لحظة وإسرائيل لم تغير سلوكها في ممارسة العنف على الفلسطينيين الذين ولدوا هنا ليبقوا في أرضهم لا ليطردوا منها ويختم ليفي: في عام 2016 ما زالت إسرائيل تعامل الفلسطينيين كما عاملتهم في عام 1948 لذلك لن يترك درويش إسرائيل بحالها وسيبقى الشخص الذي يخيفها ويرعبها لأنه يواجهها بالحقيقة الجوهرية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن