ثقافة وفن

بيتهوفن بين غوته وشيلر

| د. علي القيّم 

نستشف من خلال سيرة حياة، بيتهوفن، أن مصادر النور العظيمة التي أضاءت له الظلمة، كان مصدرها «هوميروس» والكلاسيكية القديمة، و«بلوتارك» و«شكسبير» و« شيلر» و«غوته» والثورة الفرنسية.
ومن يستمع إلى موسيقا هذا العملاق الخالد يستطع أن يلمس بجلاء الملامح الأخاذة التي تميّزت بها موسيقاه، ووفرة ما فيها من خواطر سامية فاقت بكثير كل ما أمكننا العثور عليه في الموسيقا التي سبقته.
لقد تأثر بيتهوفن بروحانية الشاعر الألماني الشهير «غوته» ونظرته الإنسانية الشاملة، وأفكاره العالمية، كما كان لفلسفة «شيلر» السامية، التي عرف عن طريقها أخلاقيات «كانط» الصارمة، فكان لها أكبر الأثر عنده، وخاصة في غناء «التراتيل» وهذا ما جعل ألحان بيتهوفن تتميز عن غيرها من ألحان المؤلفين الموسيقيين الآخرين وأي إسراف في الإشادة بتأثير «غوته» و«شيلر» على بيتهوفن والموسيقا التي جاءت فيما بعد، لن يكون مبالغاً فيه، يتجلى أثر «شيلر» بصفة أساسية في الاتجاهات الدرامية للموسيقا الألمانية التي جاءت فيما بعد، وفي مظهرها الأخلاقي، كما يتجلى أثر «غوته» فيما ظهر فيها من شاعرية سامية، وهناك من يؤكد القول: «بغير شيلر، لا وجود لبيتهوفن أو شيلر وبغير غوته لن يكون هناك شوبرت أو شومان أو مندلسون أو برامز» وامتد أثر الصادر عن هذين العقلين الجبارين إلى ما هو أكثر من الموسيقا الألمانية، ويمكن ملاحظة هذا الأثر في كل مكان من أوروبا، أي في فرنسا وإيطاليا وروسيا والبلدان الإسكندنافية، ولعل أوضح مثل يمكننا أن نجده لشيلر، وبصورة ملموسة، في السيمفونية التاسعة بنهايتها المجيدة (نشيد الفرح)، وإن كان أثره قد بدا واضحاً أيضاً في «سوناتاته» وافتتاحية «فيديليو» والسيمفونيتين الخامسة والسابعة».
لقد جاءت موسيقا بيتهوفن ذات طابع أخلاقي.. لقد صدرت عن تعبير مباشر مخلص، صادر عن روح عظيمة شعرت بالإشفاق على آلام الآخرين وشقائهم، كما شعرت بالحقيقة والواجب والإنصاف، فجاءت تلك الموسيقا ترديداً لهذا الشعور في صورة متألقة، بهية بفعل مثاليتها البهيجة المجيدة، وروعة أشجانها وتفانيها في الخشوع للقدرة الإلهية.. كل هذه السمات قد بدت في صورة فنية مقنعة خالصة.
لقد امتلأ كيان بيتهوفن كله بهذه الروح العظيمة المتأججة بأسمى الآمال الإنسانية وأنبلها، وتركت هذه الروح أثراً واضحاً، وطابعاً مميزاً على نشاطه الفني برمته.
عندما قام بيتهوفن بالبحث عن أوفى وأبلغ تعبير في حياته العاطفية، اكتشف عالماً جديداً، فمهد بذلك الطريق أمام جميع الموسيقيين الذين أتوا بعده خلال قرن من الزمن، وظلت موسيقاه منذ ذلك الحين أساساً لكل ما جاء فيما بعد في القرن التاسع عشر، وأصبحت له أهمية موسيقية عالمية، لا تدانيها أهمية، واعتبرت أعماله مدرسة عظيمة في عالم الموسيقا، لقد اكتشف عوالم جديدة، لم يكن في مقدور أحد غيره أن يكتشفها، وتبين مسودات أعماله، الجهد الكبير الذي بذله عند إقدامه على أي مشروع جديد، وكانت غايته الوحيدة من كل هذا الجهد، هي التعبير عن أفكاره تعبيراً يتميّز بالوضوح والإقناع، وبذلك حصد ما أراد من نجاح وسمو وعظمة، لأن موسيقاه تضم مثل مؤلفات «غوته» و«شكسبير» كل ما يجري في عالم العاطفة الرحيب، وفيها أهواء ومشاعر عميقة، وفيها مرح ودعابة، إلى جانب الأشجان والمآسي، أي إنها جمعت بين ما هو شاعري وما هو درامي.. أي إنها تنتمي بقوة إلى هذا العالم، كما أنها تعلو عليه.. لذلك جاءت وبقيت خالدة، معبرة عن أعظم مظاهر عبقرية الخلق والإبداع في البناء والتعبير العاطفي والسمو العقلي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن