من دفتر الوطن

قوة الضعف، ضعف القوة

| حسن م. يوسف

أحسب أن وضع الأمة يطرح نفسه بقوة على كل واحد مخلص من أبنائها: فليس من فم يلهج بحب هذا التراب إلا وفيه مرارة السؤال: لماذا صرنا إلى ما نحن عليه؟
صحيح أن الأمر لم يبدأ بالأمس فقد بدأ المثقفون العرب منذ القرن التاسع عشر يتساءلون حول إشكالية تخلفنا وتقدم الغرب، فأطلق عبد اللـه النديم سؤاله: «بم تقدموا وتأخرنا والخلق واحد؟».
وأعاد الأمير شكيب أرسلان طرح السؤال نفسه بصيغة أخرى في كتابه: «لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟» الذي صدر عام 1931 وأعيد إصداره عام 2004 ضمن سلسلة مختارات التي كان يحررها الباحث محمد كامل الخطيب وتصدر شهرياً عن دار البعث بالتعاون مع وزارة الثقافة بدمشق.
وقد أجاب أرسلان عن السؤال الذي طرحه عندما قال: «إنما نهض المسلمون بما نهض به غيرهم وغيرهم نهض بالعقل والعلم والنظر إلى الأمام بدل النظر إلى الوراء» ولا يرى أرسلان في ذلك أي غضاضة كما لا يرى فيه «أي هدم للشخصية والعقيدة» بل يرى فيه «إعادة بناء للشخصية حسب مقتضيات الزمن والمستجدات».
وقد قرأت مؤخراً بحثاً عن مكمن الفرق بين البلدان الفقيرة والبلدان الغنية يعتمد أسلوب طرد الاحتمالات، فالأمر لا علاقة له بمدى قدم البلدان في التاريخ فمصر من أعرق بلدان العالم لكنها فقيرة على حين إن كندا واستراليا ونيوزيلندا لم تكن موجودة قبل بضع مئات من السنوات، رغم ذلك فهي تعد من الدول المتطورة والغنية. كما لا يرجع الأمر لتوافر الموارد الطبيعية، فاليابان فقيرة بها وثمانون بالمئة من أراضيها جبال غير صالحة للزراعة ولا لتربية المواشي، ولكن اليابان رغم ذلك من بين أقوى اقتصادات العالم. حيث إن أحد علماء الاجتماع وصف اليابان بأنها عبارة عن مصنع كبير عائم، يستورد المواد الخام ويحولها إلى مصنوعات يصدرها لكل العالم.
كما تشكل سويسرا مثالاً آخر على ذلك، فهي لا تزرع الكاكاو إلا أنها تنتج أفضل شوكولا في العالم. وهي بلد صغير لا يكاد يرى على الخريطة إلا أن رسوخ نظامه وانضباط أمنه جعله موضع ثقة أصحاب الأموال!
المفاجئ هو أن الدراسات التطبيقية التي أجريت على المديرين في البلدان الغنية وزملائهم في البلدان الفقيرة أثبتت عدم وجود فروق تميز هؤلاء عن أولئك! والدليل على ذلك أن المهاجرين الذين يصنفون على أنهم كسالى في بلدانهم الأصلية هم القوة المنتجة في البلدان الأوروبية.
يرى الباحث أن الفرق يكمن في السلوك، المتشكل والمترسخ عبر سنين من التربية والثقافة، ففي الدول المتقدمة يتبع أغلبية الناس الأخلاق كمبدأ أساسي ويعتمدون الاستقامة والمسؤولية، واحترام القانون والنظام وحقوق باقي المواطنين، إضافة لحب الدقة في العمل وحب الاستثمار والادخار والسعي للتفوق، على حين لا يتبع هذه المبادئ في البلدان الفقيرة سوى قلة قليلة من الناس في حياتهم اليومية.
في النهاية يستنتج الباحث أننا لسنا فقراء بسبب نقص في الموارد أو بسبب كون الطبيعة قاسية علينا، بل بسبب عيب في سلوكنا، وبسبب عجزنا عن التأقلم مع المبادئ الأساسية التي أدت إلى تطور المجتمعات وغناها.
قبل أيام قرأت قصة واقعية تعبر عن هذه الفكرة بالضبط. بطل القصة ولد في العاشرة من العمر صمم على دراسة الجودو رغم فقدانه لذراعه الأيسر في حادث سير مروع.
بدأ الولد يتلقى دروسه على يد مدرب جودو ياباني عجوز، كان الولد مجتهداً متلهفاً للمزيد، لكن أستاذه لم يعلمه بعد ثلاثة أشهر من التدريب سوى حركة واحدة، وأخيراً قال الولد لأستاذه: «يا معلمي، ألا يجدر بي أن أتعلم المزيد من الحركات».
قال المعلم لتلميذه: «هذه هي الحركة الوحيدة التي ستحتاج لأن تتعلمها طوال حياتك».
لم يفهم الولد تماماً قصد أستاذه، لكنه لقناعته به، التزم الصمت وواصل التدريب بدأب. بعد بضعة أشهر شارك التلميذ بأول مباراة. ولفرط دهشته فاز بأول جولتين. صحيح أن الجولة الثالثة كانت أكثر صعوبة، لكن خصم التلميذ أصبح متعجلاً ومتوتراً مع مرور الوقت، وهكذا تمكن الولد من استخدام الحركة الوحيدة التي يعرفها وفاز بالمباراة، ليجد نفسه في التصفيات النهائية.
في المباراة النهائية كان غريم الولد أكبر منه حجماً وأقوى منه بنية وأكثر تجربة، للوهلة الأولى بدا للصبي أن خصمه متفوق عليه، وحرصاً من الحكم على عدم إصابة الصبي بأي أذى طلب وقتاً مستقطعاً واقترح على المدرب أن يوقف المباراة، لكن المدرب رفض وأصر على متابعة المباراة.
قام غريم الفتى بخطأ فادح إذ كف عن حماية نفسه فما كان من الولد إلا أن قام فوراً باستخدام الحركة التي يعرفها وتمكن من تثبيت خصمه. وهكذا فاز الولد صاحب اليد الواحدة بالبطولة.
في طريقهم إلى البيت جمع التلميذ شجاعته وسأل أستاذه قائلاً: يا أستاذي، كيف تمكنت أنا من الفوز بالبطولة بحركة واحدة؟ «أجاب المدرب: لقد فزت لسببين، أولاً لأنك تمكنت من إتقان رمية من أهم الرميات في رياضة الجودو كلها، وثانياً لأن الدفاع الوحيد المعروف للحركة التي قمت بها هي أن يقوم غريمك بالإمساك بذراعك اليسرى، وأنت ليست لك ذراع يسرى».
هكذا تحولت أعظم نقطة ضعف في ذلك الولد إلى أكبر نقطة قوة في صراعه مع خصمه.
السؤال: لماذا تتحول نقاط قوتنا في صراعنا مع خصومنا إلى نقاط ضعف؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن