ثقافة وفن

ركام إلى ركام

| إسماعيل مروة 

نقرأ كتابات، نسمع حكايات، كلها تدعو إلى الفهم والتسامح والعفو، وأغلب هذه الكتابات تصدر عن أناس مؤدلجين لا يملكون أي قدرة على التسامح والعفو، ولا يقدرون على استيعاب أنفسهم ورؤاهم، هذا إن لم نتجاوز عدم الفهم إلى عدم فهم الآخر ومستلزمات الحياة المشتركة القائمة على الحق والعدل والخير والجمال، والتي ينتفي فيها التجاوز لحقوق الآخرين الذين أعطتهم الحياة هذه الحقوق.. لا يعني الإنسان التسمية مهما كانت، إن كانت مملكة أو رئاسة أو حتى إمبراطورية! إمارة أم مشيخة! الأسماء لا تصنع أوطاناً، ولا تعطي حرية للإنسان الذي افتقدها بممارسات خاطئة، وبإقصاء لصاحب القدرات والطاقات والملكات، أو حتى لمجموعة من البشر تملك مقومات الديمومة من صفات مشتركة! لا يعني الإنسان أن تكون الأمور برلمانية أو رئاسية أو وراثية أو ديمقراطية غربية أو شرقية، كل ما يعنيه أن يحيا كريماً معافى وقد حصل على ما يستحق، وثمة فرق جوهري بين ما يستحق وما يشاء!
هذا يتحدث عن مواصفات المسيحية وروحانيتها، وذاك يتحدث عن الإسلام وواقعيته، وثالث يتحدث عن العلمانية وما تحمله من سلب وإيجاب، وفي كل نقاش مهما سما هذا النقاش تتناثر روح الإنسان، ويصبح بلا روحه وتحلّ حاجته! فكل من تحدث عن العلمانية أو الدولة المدنية، ولو حاولنا الاستعراض فسنتأكد بأن كل ما كان يعنيهم هو علاقة العلمانية بالدولة المدينية بالدين! هل تتلخص العلمانية أو الدولة المدينة بالدين؟ وهل علاقة أي فكر تحكم بصلاحيته من عدمها بناء على علاقتها بالدين؟ وهل نفت الدولة المدنية في العالم المتقدم الدين وعلاقة الإنسان بدينه؟! كل ما فعلته الدولة الحديثة أنها أزالت لافتة الدين والطائفة عن أبناء دولها، فحققت لهم ما يستحقونه من مواطنة، ولم تحاسبهم على ما ولدوا عليه، فلماذا نتعامل مع العلمانية والدين على أنهما ضدان، وعلى أن أحدهما هو الذي سيقوم ببناء حياتنا بمعزل عن الآخر؟!
الحياة الكريمة هي الأساس، والفكر لا يتنازل عنه الإنسان إلا إذا كان صاحب وعي وخبرة وخميرة، وهؤلاء قلة في الحياة كلها، وليس في مجتمع ما، مع أن ما يروجه الجهلة عن العلمانية والدولة المدنية يقتضي عكس السيرورة، فرجل ما أو امرأة أو أي إنسان يرتقي بفكره من خلال الممارسة والمتابعة، وليس من خلال الانقلاب الديني أو الطائفي أو المذهبي، ومن هنا كانت خطورة ما قامت به حملات التبشير المسيحية في البلدان الإسلامية، والإسلامية في البلدان المسيحية، لأنها انطلقت من مفهوم الدولة الدينية المزعومة، والفكر الديني المسيس، وترك رواسب لا يمكن أن تمحى من ذاكرة الإنسان الذي رأى بعينه كيف يستغل فقره أو جهله أو حاجته! فحتى تعيش انقلب من إلى! حتى في الشريعة الواحدة ألا يذكر كثيرون منا حملات الكنيسة الفلانية لكسب أبناء كنيسة أخرى؟ ألا يذكر ويرى في المذاهب الإسلامية المحاولات المحمومة من كل مذهب من المذاهب لكسب أنصار وأتباع من المذاهب الأخرى؟ من تأت به الحاجة ويغره المال فسينقلب عند أول فرصة، وسيعود إلى ما كان عليه، وربما اختار ولو مؤقتاً من يقدم له الأكثر والأوفر!
عقود مضت ونحن نناقش العلمانية والدولة المدنية، ولم نصل إلى نتيجة ولن نصل! فإذا كنا نناقش الأمور العلمية وعند الوصول إلى قناعة نهرع إلى رأي الأزهر أو المرجعية الدينية مشيخية أو كنسية، فما الفائدة من كل هذه النقاشات ما دامت أفهامنا وقراءاتنا ستؤطر برأي لأحدهم مهما كان هذا صاحب قيمة ومكانة؟!
إذا كنا سنمضي أعمارنا في النقاش الذي قد يثمر عن أفكار، ومن ثم ندفن أنفسنا في عباءة الفكر الديني أليس من العبث أن نقوم بكل ما نقوم به؟ نجتهد، ندرس، نناقش، ومن ثم نركن إلى رأي مضت عليه قرون باستكانة وتسليم لا يصل إلى طهر إيمان العجائز القائم على الفطرة.
قائمة من انتقلوا من شريعة لأخرى أو من مذهب لآخر طويلة للغاية، وعدد منهم كان من أصحاب الرأي في المحيط العام قبل انتقاله، وبقي كذلك بعد انتقاله، ولكن السؤال الذي يجب أن يتبادر إلى الذهن لدى من كسبوا المنتقل إلى ضفتهم، وقبل التهليل لانتقاله، ماذا قدّم أو يقدّم أو سيقدّم من إضافة فكرية لم تكن موجودة؟ وماذا يمكن أن يغيّر في التفسير والسلوك والحياة؟ أما أن يكون الانتقال لمجرد الانتقال، فهذا إضافة ركام إلى ركام، ويكون لغايات شخصية تتمثل في مؤسسات وتحقق مصالحه ومنافع لم تتحقق له!
فكم من هؤلاء الذين انتقلوا لم نسمع لهم نقداً بعد انتقالهم؟! وغادروا طاهرين حسب آراء السذّج! ونسوا أن الطهر يكون فيما تقدمه للآخر، وفي الفكر الذي يمكن أن تضيفه إلى فكره!
من هنا لست على وفاق مع عدد من الذين غيروا شريعتهم أو مذهبهم أو طائفتهم، ليس لأنهم غيروا فذاك شأن فكري، ولكن لأن مرحلة ما بعد التغيير كانت أكثر فقراً وأكثر إجداباً، وربما أسهمت في زيادة شقة الخلاف بين أبناء الشريعة الواحدة أو المذاهب أو الطوائف! وخاصة أن الانقلابات تأتي في مرحلة عمرية متقدمة بعد أن يكون أحدهم قد استنفد طاقاته البشرية الشابة، شأنهم في ذلك شأن الساسة الذين يمضون أعمارهم في شتى صنوف السياسة غير الشريفة، ويمارسون ما لا يمكن أن يتخيله إنسان، وعندما تنتهي أدوارهم نجدهم يدبجون مذكراتهم لتبرئة أنفسهم، بل بعضهم مهما كان انتماؤه يتحول إلى عالم دين، ويتزيَّا بالزي الديني ليبقى مستمتعاً بالمزايا لا أكثر، وهو لا يقدم إلا شيئاً واحداً، وهو البقاء في صدارة المكان والمجالس والمجتمع.. والبسطاء ينسون كل شيء، ويستمعون إلى السياسي المنسلخ ويقولون: يا أخي أن يرى الحقيقة أفضل من ألا يراها! يا أخي إن الله يقبل التوبة وتغيير الرأي! أو يجلسون إلى السياسي المنقلب عالم دين ليستلهموا من أعطياته، وينسوا ما عانوه على يديه!
الغاية من هذا الكلام أن المؤسستين السياسية والدينية تمثلان توءمين لا يمكن الفصل بينهما، وإن كان ثمة من رأي، فإن السلطة السياسية هي التي تحرص على إثارة المؤسسة الدينية ضد تأسيس دولة المواطنة المدنية والعلمانية، فالمؤسسة الدينية هي وحدها القادرة على تسويغ طغيان وتسليم لا يمكن التسليم به في حال الدولة المدنية والعلمانية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن