قضايا وآراء

«الورطة الأردوغانية»…

| فرنسا – فراس عزيز ديب 

منذُ وصول الصور الأولى لاستقبال «بوتين» لـ«أردوغان»، كثُرَ الحديث عن الهيئة التي ظهرَ فيها «أردوغان» وهو شبهَ منكسرٍ أمام «بوتين». لكن كل هذا الكلام لا يُعادل شيئاً في السياسة، فالسياسة هي «فن الممكن»، فما بالنا إن كان هذا الممكن يتحقق عبر شخصيةٍ أساساً لا مبادئ ولا ثوابت لها، شخصيةٌ تاجرت بكل شيء بما فيها دماء الأبرياء حتى تصلَ إلى أهدافها، وعندما فشلت لم تجد ضيراً في الدخول بمعمعة التنازلات هنا وهناك، أو المساومة هنا وهناك، لكن هل الأمر ممكن؟ من المبكر الذهاب بعيداً في التفاؤل والظن أن «أردوغان» وصل إلى قمة «بطرسبورغ» فقط ليتلقى التعليمات، هذا تسطيحٌ للمجريات لا يفيد أحداً. كذلك الأمر لم يرشح حتى الآن أي شيءٍ عن القمة وما هي طبيعة المساومات- إن تمّت- حتى كلام نائب رئيس لجنة الدفاع في مجلس النواب الروسي بأن الروس طالبوا الأتراك بإغلاق الحدود ووقف تدفق الإرهابيين إلى سورية، لا يبدو أنه يحمِل أي جديد.
في المقلب الآخر؛ فإن تصريحات وزير خارجية النظام التركي بأنه يجب محاربة التنظيمات الإرهابية في الشمال السوري، لا يبدو كلاماً في العموميات فحسب، لكنه يحمل تناقضات كبيرة قد تقودنا للحلقة الأهم: ترى ما التنظيمات الإرهابية التي عناها «أوغلو»؟ هل سيدخل من ضمنها فرع تنظيم القاعدة في سورية «النصرة»، أم إننا سننتظر أعواماً تالية للاتفاق على التصنيفات؟ ثم ماذا عن «الفصائل الكردية» التي تقاتل في الشمال السوري، تحديداً أصحاب الطموحات الانفصالية؟ هل سيقاتلونها أيضاً أم إنه علينا العودة لتصريحات «صالح مسلم» التي سبقت زيارة «أردوغان» لروسيا بأيام، بأن إنشاء «دولة كردية» في الشمال السوري أمر مستحيل؟ فهل أن هذا الأمر هو تراجعٌ للانفصاليين الأكراد يُعتبر دفعة على الحساب قدمها «بوتين» لـ«أردوغان» قبل انعقاد القمة كبادرةِ حسنِ نية، أم إن الأثمان فيما تبدو أكبر من ذلك بكثير؟
واقعياً، لا يبدو أن «أردوغان» بحاجةٍ إلى مقايضة الورقة الكردية مع أحد، فالانفصاليون منهم يشكلونَ خطراً على الجميع، بمن فيهم إيران. أما خصومه؛ أكراد الداخل، فهو فعلَ بهم ما يشاء، من طردهم من مجلس النواب إلى قصف القرى الكردية الآمنة وإبادتها بذريعة وجود عناصر لـ«حزب العمال الكردستاني» فيها. أما الوعود الاقتصادية، فالروس وإن بدوا ليسوا مستعجلين لإعادة الأمور إلى نصابِها، لكن هذا لا يمنع أن هناك حاجةً ما لعودة التبادل مع تركيا، لأن الروس أساساً يرزحون تحت العقوبات الأوروبية، والمنفعة فيما تبدو متبادلة من التطبيع الاقتصادي.
أما بما يتعلق بإيران فإن العلاقات أساساً من الناحية الاقتصادية تطورت ولم تتأثر بكل المجريات، ومن ثم لا يمكن الحديث عن «وعود اقتصادية»، مقابل الاستدارة.
في الجانب السياسي، فإن هذا الانفتاح لا يعني بما يعنيه أنه «فك العزلة» عن «أردوغان» كما يسميها البعض، فلا إيران قطعت علاقتها مع «أردوغان» أساساً، ولا الروس كانوا بوارد عزل «أردوغان»، تحديداً أن السياسة الداعمة للعصابات الإجرامية التي انتهجها «العدالة والتنمية» جعلت منه يتلاعب بأوراقٍ كثيرة من بينها ورقة اللاجئين، الأمر الذي دفع الأوروبيين لعقد اتفاقٍ معه، ولم يصل الأوروبيون بشكلٍ عام لاتفاق يتيح معاقبة أو عزل النظام الحاكم في تركيا، ثم إن سياسة العزل تلك لا يستطيع الأوروبي فقط تقريرها بمعزلٍ عن الأميركي، والأميركي فيما يبدو حتى الآن كما السوري صامتٌ حيال ما يجري فما سر هذا الصمت؟ وهل حقاً أنه سيتجاهل تشكيل مثلثٍ إيراني تركي روسي؟
قد يرى البعض أن القيادة السورية صامتة حيال هذه التطورات، لكن قد يكون هذا الصمت سياسياً، أما الميدان فلم يصمت، والدليل هو ما جرى في «ريف اللاذقية»، وما يجري الإعداد له لمعركةٍ يستعيد فيها الجيش العربي السوري والحلفاء ما خسروه في الريف الجنوبي لحلب، أي إن الميدان لا علاقة له بما يجري من مباحثاتٍ فالحرب على الإرهاب من وجهة النظر السورية لا تتجزأ. أما على المستوى السياسي، فماذا يريد أساساً أردوغان» من الروس والإيرانيين أن يقدما له، وهو يعرف تماماً أن كلاهما ليس قادراً أن يمنحه وعوداً لا يملكون تنفيذها؟ فماذا عن الصمت الأمير كي؟
هل يمكننا القول إن الصمت الأميركي ناتجٌ عن تفاهماتٍ ضمنية مع الروس تُفضي بإنهاء الحرائق في المنطقة، وإنزال الرؤوس الحامية عن الشجرة، تحديداً أن التهديدات التركية «البهلوانية» للأميركيين بحجة تورطهم في الانقلاب ظهرت وكأنها مسرحيةٌ هزلية تُعرض من دون جمهور. أما الحديث (الحالم) عن انسحاب تركيا من الناتو، فهو أشبه بضربٍ من الجنون، هل حقاً أن من يروج لهذه الأفكار يقرأ في السياسة أم إنه يقرأ في الدراما التركية؟
إذاً نبقى أمام الاحتمال الأكثر موضوعيةٍ: هل أن هذا الصمت الأميركي هو الهدوء الذي يسبق العاصفة إن الصمت الأميركي ومن خلفه الأوروبي يعني أن هناك ناراً تحت الرماد يتم النفخ فيها؟ وليتذكر «أردوغان» أن المستعربين ذواتهم الذين غدروا بـ«دمشق» و«بغداد» سيغدرون بهِ.
هي نقطة اللا عودة التي أوصل «أردوغان» نفسه والمنطقة إليها، قد يكون الاحتمال الثاني هو الأرجح، تحديداً أن الأميركيين ليسوا كالروس، فهم لن يبيعوا «أردوغان» ما عملوا عليه خلال السنوات الماضية في الشمال السوري بهذه السهولة، والنتيجة واحدة أن التركي في مأزقٍ لا يستطيع أحد أن ينتشله منه، لا الروسي ولا الإيراني، لا بتحالفاتٍ جديدة ولا بالعودة عما بدأه، فهو إن بقي على ما هو عليه خسر العلاقة المستجدة مع الروس، وإن فكر بالاستدارة فإن سكين العم سام جاهزة.
أيام قليلة وسينتهي مفعول ابتسامات المجاملة بين الروس والأتراك، عندها سنعود لأرضِ الواقع، ماذا سيتبدل؟ لا شيء إلا إن كنا نظن أن التركي يملك أساساً أن يبدل شيئاً، الذي سيتبدل فقط هي آلية التعاطي الغربي مع فرضية التحولات الأردوغانية، لتصبح تركيا ساحة النزاع القادمة.. عندها هل سيسارعون لإنقاذه كما المرة الماضية على أمل إعطائه فرصةً ثالثة أم إنهم سيكونون كما في كل مكانٍ فيه نزاع «الخصم والحكم»؟ ربما نرجِح الثانية، لكن ما لا نمتلك جواباً له حتى الآن، تُرى لو اندلع الانقلاب الحقيقي على «أردوغان».. هل سيكون هناك من سيسميه «صحوةً علمانية كافرة.. والعياذ باللـه»؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن