سورية

مــــــا بعــــد منبـــــج!

| أنس وهيب الكردي

حتى الآن لم تكشف «قوات سورية الديمقراطية» عن وجهتها عقب سيطرتها مدعومة بـ«التحالف الدولي» الذي تقوده واشنطن، على منبج كبرى مدن ريف حلب على الإطلاق، وطردها فلول تنظيم داعش منها إلى مدينة جرابلس القريبة والحدودية مع تركيا.
وبدأت «الديمقراطية» معارك منبج بـ«إلهاء إستراتيجي»، حيث شنت هجوماً على مواقع داعش في الشرق موحيةً أن هدف الهجوم هو الوصول إلى الرقة، في حين كانت التحضيرات كافة تتجه للسيطرة على المدينة الحلبية الواقعة إلى الغرب من نهر الفرات.
والحقيقة التي لا مفر منها أن هذه القوات ما كانت لتحقق تقدماً يذكر، وكانت نواتها الأساسية «وحدات حماية الشعب» الكردية لتسحق على يد داعش في عين العرب بريف حلب الشمالي على الحدود التركية خريف العام (2014)، لولا الدعم الذي قدمته الحكومة السورية وحملة القصف الجوي الذي شنته طائرات «التحالف الدولي»، بقيادة واشنطن انطلاقاً من قواعد جوية في الأردن والسعودية! وهو ما أثار غضب تركيا في حينه.
ومع انتصار «وحدات حماية الشعب»، التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، وجدت واشنطن أنها حلت معضلة أرقت المسؤولين الأميركيين طويلاً. فالحرب ضد داعش، بحسب إستراتيجية الرئيس باراك أوباما، يجب أن تتركز على عناصر التنظيم فحسب من دون أن تطول الجيش السوري، وأن يخوض الحرب «قوات محلية»، لا بد أن تكون «معتدلة»، تدعمها طائرات «التحالف الدولي». رأت أنقرة في إستراتيجية أوباما تعزيزاً لأوراقها التفاوضية. فمن دون القواعد التركية لا فعالية لغارات طائرات «التحالف الدولي»، و«المسلحون» الذين تدعمهم أنقرة جاهزون لقتال داعش، والثمن لكل ذلك هو تمديد التحالف كي يقاتل الجيش السوري وتحييد «وحدات حماية الشعب»، وإقامة مناطق آمنة وفرض حظر جوي. رفضت واشنطن المطالب التركية بحزم، وبعد معركة «عين العرب»، وقع خيارها على «وحدات حماية الشعب»، فقوتهم للضغط على أنقرة لتليين شروطها من أجل الانخراط في التحالف الدولي. منذ ذلك الحين نشأ تحالف أميركي كردي، غير المعادلات في شمال سورية.
غداة توقيع الاتفاق النووي مع إيران، عقدت الولايات المتحدة صيف العام (2015) الماضي، «نصف صفقة» مع الأتراك، قضت بفتح قاعدة أنجرليك أمام طائرات «التحالف الدولي» مقابل إقامة «منطقة خالية» من داعش في الأراضي الواقعة ما بين إعزاز وجرابلس، يتولى الأمن فيها «الإسلاميون المعتدلون» المقربون من أنقرة، وذلك بالتوازي مع مواصلة عمليات تدريب المسلحين «المعتدلين» على قتال تنظيم داعش. هذا التطور جاء بعد سيطرة «وحدات حماية الشعب» على منطقة تل أبيض في الرقة، والتي سمحت لهم بوصل مناطق سيطرتهم في الجزيرة، بالحسكة، وعين العرب بحلب. أسقط التدخل الروسي، الذي أعلن عنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خريف العام (2015) الاتفاق الأميركي التركي.
نحو هذا التاريخ، تخلى الأميركيون أيضاً عن تدريب «المعارضة المعتدلة»، البرنامج الذي أفشلته «جبهة فتح الشام» (جبهة النصرة سابقاً)، وقرروا دعم تحالف بين فصائل عشائرية ومسيحية في الجزيرة، مع «وحدات حماية الشعب». تم إطلاق هذا التحالف في تشرين الأول الماضي من العام (2015). كان باكورة إنجازات «قوات سورية الديمقراطية»، السيطرة على منطقة الشدادي في الحسكة، بدعم من طائرات «التحالف الدولي»، التي استهدفت مواقع داعش، وألقت أسلحة لفصائل التحالف الجديدة. ترافقت العمليات في الشدادي، مع استيلاء واشنطن على مطار زراعي في مدينة رميلان شرقي سورية، وتحويله إلى مطار لطائرات الشحن الأميركية.
ومع بدء العام الحالي، أوكلت واشنطن إلى «الديمقراطية» مهمة إنهاء تنظيم داعش في شرق سورية. بالترافق تمكن مقاتلو «وحدات حماية الشعب» المتمركزون في عفرين بريف حلب الشمالي الغربي، مدعومون من قبل القوات الروسية، من السيطرة على مطار منغ والتقدم صوب مدنية إعزاز. ردت المدفعية التركية بقسوة على المقاتلين الأكراد قبل أن تتوقف المعارك مع دخول اتفاق «وقف العمليات العدائية» حيز النفاذ في شباط من العام (2016).
واستعداداً للمعركة الفاصلة في الرقة، جهزت واشنطن قاعدة جوية عسكرية جديدة في عين العرب. وتكثفت زيارة المسؤولين الأميركيين المشرفين على التحالف الدولي إلى القاعدة. وفي نيسان الماضي، عقد زعماء القوى الغربية اجتماعاً في مدينة هانوفر الألمانية، تقرر فيه إطلاق معركة منبج قبل بدء الهجوم النهائي على الرقة. ومنذ هذا الاجتماع تكاثرت الأدلة على إرسال قوات فرنسية وألمانية إلى مدينة عين العرب شمال حلب، في حين تأكد استحداث القوات الخاصة البريطانية مركزاً لها في التنف قرب مثلث الحدود السورية العراقية الأردنية. أثار الوجود الغربي المستجد في عين العرب، رد فعل علنياً غاضباً من دمشق، وآخر مكتوماً في أنقرة. كما تصاعد القلق في موسكو وطهران، كل لأسبابه حيال مجريات الأحداث في الشمال.
والآن بعد السيطرة على منبج باتت حملة التحالف الدولي على مفترق طرق. فمواصلة قوات سورية الديمقراطية التوغل حتى جرابلس أو الباب ومنهما إلى إعزاز من شأنه أن ينسف التفاهمات الأميركية التركية التي مهدت الطريق أمام معركة منبج، ويضطر تركيا إلى الانسحاب من التحالف وإغلاق قاعدة أنجرليك أمام طائرات التحالف، هذا إذا لم تقصف المدافع التركية القوات المتقدمة صوب جرابلس. ورجح إعلان قوات سورية الديمقراطية أمس عن تأسيس «مجلس الباب العسكري»، على شاكلة «مجلس منبج العسكري» الواجهة التي اختفت خلفها وحدات حماية الشعب أثناء التحضير لعملية منبج، هذا السيناريو.
من هنا يأتي إصرار موسكو وطهران وأنقرة على وحدة الأراضي السورية المهددة بالتحركات الأميركية. وعشية لقاء القمة بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان أغلقت السلطات الروسية ممثلية الإدارة الذاتية (التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي) في موسكو. وتحدثت مصادر فيما يسمى «فدرالية الشمال» عن اتفاق روسي تركي على عدم تمثيل «حزب الاتحاد الديمقراطي» في الجولة المقبلة من محادثات جنيف.
وبغض النظر عن تطورات الميدان، على الأرجح أن ينقل «حزب الاتحاد الديمقراطي» جهودها لتأسيس «فيدرالية الشمال»، والتي أعلن عنها قبل أربعة أشهر، إلى مرحلة جديدة، تتجاوز الإعلان الشكلي، وتنتقل إلى إجراءات عملية.
وفي هذا السياق، أكدت عضو المجلس التأسيسي لما يسمى «النظام الاتحادي الديمقراطي» في شمال سورية فوزا يوسف عن «الانتهاء من إعداد العقد الاجتماعي»، مؤكدةً أن شهر أيلول المقبل سيشهد عقد اجتماعات للأهالي لاستطلاع آرائهم حول الموضوع. وفي الغضون، أكدت إلهام أحمد الرئيسة المشتركة لـ«مجلس سورية الديمقراطي» الذراع السياسية لـ»قوات سورية الديمقراطية»، أن وضع منبج سيؤثر بشكل مباشر على مستقبل سورية وعلى التوازنات السياسية في المنطقة، وخاصة في سياسات الدولة التركية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن