ثقافة وفن

«له ولها» ولكنه للشعر ونقائه وفكره … شاعر يحمل فن الشعر وفكره في إيحاء مميز .. هل تعرف كيف الدمع يعقم جرح الوطن النازف؟!

| إسماعيل مروة

لم أكن قد قرأت له عندما سمعت اسمه، رأيت صورة له في مشاركة من مشاركاته، وأذكر أنني اعترضت على ما انهال عليه من مدح، لكن صديقي عامر أطلعني على نصوص له فوجدت شيئاً مختلفاً، ثم حدثني عن مجموعة لأحمد السح أرسلها للطباعة منذ أكثر من عام ولم تجد طريقها، ولا يعرف عنها خبر، طلبت المجموعة واسمها، فكانت «كل لغة لي وكل حرف لك» وبعد البحث تبين أن من كلفه الشاعر بمتابعة مجموعته لأنه يقوم بواجبه في أداء خدمة العلم لم يقم بأي خطوة لصديقه أو أكثر!! ولأنني خشيت على المجموعة دفعت صديقه عامر لمتابعة أمرها، وكان ذلك، ولأن المجموعة تحمل شعراً حقيقياً، يميط اللثام عن صوت شعري يشبه نفسه، فإنها وجدت طريقها إلى النشر مطوبة من وزارة الثقافة السورية من دون أي تدخل من أحد، وها هي مجموعة أحمد السح الشاعر الذي انقلب إلى صديق حميم بعد لقاء أدبي واحد لما حمل من ميزات ترى النور معلنة ولادة شاعر متميز وسط ركام المطبوع والملقى..

كل لغة وفن الشعر
لست هنا في صدد الحديث عن العروض والأوزان، ولكنني منذ البداية، وأنا قارئ شعري دائم، أعترف بالشعر الحديث وأراه ضرورة، وقد لا أنسجم كثيراً مع الشعر التقليدي في هذا العصر السياسي والأدبي، ولكنني حتى مع النثيرة أرى أنه لابد للشاعر من أن يكون قبل الإقدام على الشعر والتحديث والنثيرة أن يكون ملماً بالشعر وأوزانه وعلومه ودوائره، فإن ملك هذه الخبرة كان ما يقوم به من تطوير وحداثة منطلقاً من معرفة عميقة، والمشكلة أن عدداً ممن يمتهنون الشعر اليوم يقومون بذلك من باب الجهل، فيشتم الشعر والوزن، ولا يرى الشعر إلا ما يتقيأ ذات لحظة فيسبوكية، ولأنه أعجب بنفسه يجمع هذه الثرثرات في مجموعة، وينبري في المنابر لشتم كل الأبحر الشعرية وصانعها!!
لكنني عندما قرأت كل لغة لي وكل حرف لك وجدت شاعراً يعرف الشعر، يقدر الوزن والموسيقا، ويراعي روح الشعر، وقصائده لا تخرج عن الإطار الشعري، وبالإمكان ملاحقة التفعيلات والأوزان والأبحر.
في الشرق: على قارعة العطر النبوي!
أتأتئ أول كلماتي، ثم أطير
أسحب آخر
أوراق العام
وأزكي نُدَب القلب
تلال تلال
يسألني البدوي العابر:
أين الله؟!
فيجيب الرمل بعصف أهدأ من خطف البال
الله كما أنت
حنين حدود لا تُعقل
أوسع من جسدٍ صلصال
ولننظر إلى اجتماع عناصر الشعر الجميل، الوزن، التفعيلة، الموسيقا، الروح في مقطوعة فيها من الخوف العاري في جريمة لا تجد جانباً:
يداعب لحمه الشهويّ
في الخلوات
يهمي
في ضياع الصمت
يرتكب الجريمهْ
يفتش عن صديد الحزن
يبلع عالم التاريخ
يأبى أن يفكر في الهزيمهْ
يفاجئ خوفه العاري
جموح الوهم يتبعه
يقاسم تخته العذري
أوجاعاً يتيمهْ
يعاند رأسه المزروع من زمن الطفولهْ
حائراً
يقبل حلمه الصيفي
تقبيل الوداع
يعود ينتعل التراب
وأشياء قديمهْ
في التفعيلة والوزن والصورة يلبس أحمد السح رداءه الشعري من صوفية الحرف، ويتبتّل، وتحار أنت أمام ما يطرحه في هذا النص المراوغ بين الخوف والشهوة والهزيمة والطفولة، ليعود إلى الأشياء القديمة في قلب الحزن والوجع والحلم الصيفي المتصبب خوفاً في ظهيرة قائظة!

الجرح النازف
الشاعر مقاتل يمارس مهامه بقناعة، من شرف ووطن وإخلاص، ومن قلب الحرب ومن سرير متقشف لمقاتل يسهر على راحة الوطن، يقول ويقدم صورة من الصعب أن نجدها لدى شاعر يصف ولا يعاني، وها هو يدخل إلى الذات، لا يعتمد أي مباشرة، ولا يلجأ إلى ألفاظ رنانة، وبلغ المدى عندما يصف أقسى لحظات حزن الوطن وقهره:
لا تمسح دمعه
اتركها تحفر ثلماً في الوجه المعتاد على الأثلام
دعها تغسل غبرة زمن زائف
دعها لتبلّ القلب الناشف
هل تعرف كيف الدمع يعقّم جرح الوطن النازف؟
قد يكون النص قديماً، فهو غير مؤرخ، ولكن القارئ من حقه أن يبلور رؤية الشاعر، وهو يقرأ نصاً يشرّح الغصة والألم، ليكتشف مدى إيلام الدمع النازف في وجه الوطن في أثلام لا تتوقف عن الانهمار لتعزز النزف المتواصل، أقول هذا لأن مفهوم الوطن عند الشاعر غير متحول، ففي نص سبق الحرب على سورية بما يقارب السنوات الأربع يقدم مفهوماً استشرافياً للوطن وصورته، ولكن بشفافية مطلقة، ومن دون استخدام المباشرة:
إن كنت في وطن يحبك شعبه
تشتاقه ويؤول لونك للكمال بنصره
ويصير صوتك كالخيال بحزنه
وتعيش عيشتك الأخيرة فوقه
أو تحته
أو بين أقدام العراة بظله
فاعرف بأنك خالد
وتموت مغفور الذنوب
إنه الوطن الذي يستحق أن يموت الإنسان لأجله، ويبشرهُ الشاعر أنه مغفور الذنوب، لكن الشرط الوحيد الذي يضعه الشاعر هو الحب والشوق، والشوق حقاً يكفي وحده… في المجموعة يبدو أحمد السح شاعراً فناناً مقتدراً، وشاعراً يحمل إيماناً وقناعات لا تتزعزع بالوطن، وهو ما جعله يضع يده على ألم من الصعب أن يعرفه العابر إنسانية في وطنه، أو شعرياً في روح الشعر، عرفه وحدده لأنه شاعر أصيل يجمع بين الفن والفكر، وها هو يقول بعد سبعة أشهر على الحرب على سورية.
فالأغنية المطعوجة عبر الهاتف أرقى من نزهة أشجار
زرعت قسراً
بين مبان بنيت بالمال
حراماً كان
المعماري بها يسرق
إسمنت البيت
يحمم زوجته في مائه
ذاك الماء المتفشي
كي ينجب
بين الزخم الآتي
أولاداً
تنجب أولاد…
إنه الشعر، فلنتأمل، ولنستمتع فكراً وشعراً وروحاً..

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن