قضايا وآراء

تراجع وتصدع الهيمنة الاقتصادية الأميركية في العالم

د. قحطان السيوفي: 

 

المؤشرات العامة، على الساحة الدولية، تُوضح تراجعاً بل تصدعاً للهيمنة الاقتصادية والمالية للولايات المتحدة الأميركية في الساحة الدولية. ومن هذه المؤشرات المهمة موضوع «البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية» الذي دعت الصين إلى تأسيسه؛ والذي يحظى باهتمام واسع من النقاشات الحالية المطروحة على الساحة الاقتصادية الدولية.
وتجاوز النقاش أروقة المسؤولين المعنيين بالشأن الاقتصادي العالمي، ليدخل في مجال التجاذبات السياسية الدولية… ليصبح النقاش جزءاً أساسياً من القضايا الإستراتيجية الدولية، والتغييرات الكبيرة المحتملة في النصف الثاني من القرن الوحد والعشرين بما في ذلك انعكاسات واضحة على منظومة الجيو- إستراتيجيا.
من الواضح أن البنك الآسيوي للاستثمار كان موضوعَ خلاف حاد بين بكين وواشنطن، وتوسع الخلاف ليصبح بين الولايات المتحدة وحلفائها الرئيسين (بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، ايطاليا) الذين سارعوا للانضمام إلى البنك الوليد دون الاستئذان المُسبق من الولايات المتحدة… وكانت بريطانيا سباقة لتطلب أن تكون عضواً مؤسساً في البنك. وأثار هذا الموضوع تساؤلات حول الأسباب التي أثارت حفيظة واشنطن من إحداث بكين للبنك الآسيوي للاستثمارات، وتساؤل آخر عما يمكن أن يمثله ذلك من تحد للغطرسة الأميركية وهيمنتها على النظام المالي والاقتصادي الدولي.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت منظمات (بريتون وودز)؛ البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي وأيضاً المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي يهيمنون ويتحكمون بالنظام المالي والاقتصادي العالمي، هذا النظام متهم بأنه أداة بيد واشنطن لفرض شروط الدول الرأسمالية على الدول النامية والفقيرة، من خلال القرارات المالية المتعلقة بالإقراض وأنماط التنمية….
وشهادات «حسن السيرة» التي يعطيها البنك والصندوق الدولي تعتبر ضمانة وشرطاً أميركياً لحصول الدول النامية والفقيرة على قروض.
الملاحظ أن السنوات الأخيرة شهدت بعض تغييرات في النظام المالي والاقتصادي العالمي، باتجاه الحد من الهيمنة الأميركية المالية في العالم.
ويرى البروفيسور مارتين جيمسن أستاذ التحليل الإستراتيجي في جامعة كمبريدج، أن انضمام الأسواق الناشئة والعديد من دول العالم إلى البنك الآسيوي الجديد، جاء من منطلق إستراتيجي، ولكونه عملية تأسيس واقعي لمستقبل الصين اقتصادياً وجيو– إستراتيجيا.
وتسعى بعض العواصم مثل لندن وبرلين للحفاظ على توازن بين المؤسسات المالية الدولية الصندوق والبنك، والفرص المستقبلية المتمثلة في البنك الآسيوي للاستثمار..
ومن المتوقع أن يبدأ البنك نشاطه بنهاية 2010. تملك الصين 30.85 % من أسهم البنك، على حين تحتل الهند المرتبة الثانية بحصة 10.85%. 75%من رأس مال البنك – وبالتالي حقوق التصويت – من المرجح أن تكون آسيوية.
توزيع المناصب داخل هيئات المصرف تعتبر اختباراً حقيقياً بين المصرف وخصومه وخاصة واشنطن وبكين اللذين ينظران إلى البنك الوليد، باعتباره مؤسسة مالية تستخدمها بكين كرأس حربة لتعزيز هيمنتها الاقتصادية، وذراعاً مالية لزيادة نفوذها في الاقتصاد الدولي.
في رأينا أن أحداث البنك الآسيوي يعتبر مرحلة رئيسية في تاريخ النظام المالي العالمي، وعلى الصين أن تستفيد من جوانب الضعف في البنك والصندوق الدوليين، للحد من الهيمنة الأميركية على آليات صنع القرار الداخلي فيهما… بالمقابل فإن المسؤولين في المؤسستين الدوليتين على دراية بأن البنك الآسيوي للاستثمار تحد خطر لمستقبلهما، وأن التركيبة الداخلية لهياكلهما لا تسمح لهما بتبني موقف رافض للبنك الجديد؛ فالصين عضو أساسي ومهم في هاتين المؤسستين الماليتين، وكبار الدول الأعضاء في الصندوق والبنك انضموا إلى المصرف الجديد، والولايات المتحدة المؤثرة في هاتين المؤسستين، لا تستطيع انتزاع قرار منهما برفض المؤسسة المالية الجديدة نرى أن البنك الآسيوي ترجمة لواقع النظام الاقتصادي العالمي خلال العقدين الماضيين، فالنمو في الدول الآسيوية أعلى من الدول الرأسمالية الصناعية، والصين حتى في أسوأ أوضاعها الاقتصادية تستهدف نمواً بمعدل 7 % والهند ستتجاوز 5 %… على حين الولايات المتحدة تتطلع لمعدل نمو 3.5 % وبريطانيا أقل من 3 % وفرنسا في وضع الركود.
المعارضة الأميركية للبنك الآسيوي لا تقوم على معايير اقتصادية، بل على أساس القلق من المخاطر المستقبلية الناجمة عن رغبة الصين في تأسيس نظام مالي عالمي جديد منافس للنظام الراهن المهيمن عليه أميركياً، وخاصة أن مشروع البنك ترافق مع مشاريع اقتصادية صينية أخرى كطريق الحرير والحزام الاقتصادي، لتعزيز العلاقات الاقتصادية مع المحيط الآسيوي وإعطائها أولوية إضافة إلى مسعى حثيث من بكين لجعل اليوان الصيني عملة دولية وكان الرئيس الأميركي باراك أوباما قد صرح خلال مؤتمر صحفي مع رئيس الوزراء الياباني، بأن واشنطن لا تعارض البنك الآسيوي، وهذا يكشف إدراك البيت الأبيض أن المصرف الذي سيبلغ رأسماله 100 مليار دولار أميركي سيصبح حقيقة واقعة، شاءت أميركا أم أبت، والحكمة تتطلب عدم مناطحته وإنما استيعابه، وعدم هدم كل الجسور مع العملاق المالي المقبل الواقع يشير إلى أن الموقف الأميركي من البنك الآسيوي لا يزال سلبياً، وخطاب أوباما لا يتعدى تصريحات إعلامية مبطنة بالرفض وهناك تنسيق بين واشنطن وطوكيو لطرح بدائل أخرى للبنك الآسيوي وتحاول اليابان، بتشجيع أميركي، تحدي الصين من خلال دعم بنك التنمية الذي مقره العاصمة الفيليبينية مانيلا لينافس البنك الآسيوي الصيني. وهذا دليل على أن الإدارة الأميركية لا تزال على موقفها من محاربة البنك الوليد… ومؤشرٌ على ضعف الهيمنة المالية الأميركية في العالم.
إن طوكيو حليف قوي لواشنطن، وليس لها مصلحة في تغير النظام المالي الحالي، أما الصين فإنها تتحدى تدريجياً قيادة الولايات لمتحدة للنظام الدولي كله، وهناك اشتباكات جيو – إستراتيجية بين الطرفين، ولهذا تلجأ واشنطن لطوكيو لتحدي المشروع الجديد.
الصراع بين واشنطن وبكين بشأن البنك الآسيوي الوليد يتعلق بالقرار الذي سيتخذ بشأن نوع العملة المستخدمة في عمليات الإقراض، فالصين تدفع في اتجاه اعتماد العملة الصينية عملة رسمية للبنك، وإذا ما أقر ذلك، فإن هذا يعني إقبالاً دولياً على سندات الخزانة الصينية، وتحتفظ المصارف المركزية في العالم حالياً بما قيمته 80 مليار دولار من هذه السندات، وسيزيد الطلب عليها، وستزداد قدرة الصين على الاقتراض من المؤسسات الدولية بأسعار فائدة مخفضة، وسيدفع ذلك القدرة الاقتصادية الصينية وتحديداً في المجال التجاري أشواطاً للأمام، وبهذا يكون البنك الآسيوي للاستثمار الوليد رافعة دولية للاقتصاد الصيني كله، وليس فقط أداةً لتعزيز الحضور الصيني في آسيا، ما سيُحدث انعكاسات مستقبلية على الساحة المالية الدولية… وسيؤدي إلى تراجع وتصدع في الهيمنة الاقتصادية الأميركية في العالم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن