ثقافة وفن

الكلمة الصادقة

| د. علي القيّم 

الكلمة هي فعل وحياة، إنها شيء يضع فيه الأديب دمه، ويجسد فيه نزعات نفسه، وليس له من غاية إلا إزالة الغشاوة من عيون الآخرين الذين لم يُتح لهم الإعراب عن مكنونات نفسهم… الأديب يرى في الكلمة قوة عاتية، يمكنها أن تهدي الناس إلى حقيقتهم، ويمكنها أيضاً أن تجعلهم يتمردون يوماً ما على ما هو موجود في وجودهم، من أجل الأفضل الأقرب إلى إنسانيتهم.
الكلمة هي التي يمكنها أن تجعل الإنسان في فعل دائم، وحركة متجددة.. هي الفعل الذي يضيف فيه الإنسان نمطاً جديداً من أنماط السلوك الإنساني، وهي التي يمكنها أن تجعل الفعل أكثر تحقيقاً لصورة مُثلى عن الحياة، وليست من مبتكرات الخيال، بمقدار ما هو ثمرة من ثمار التجربة… إنها حاجة عميقة يمليها على النفس إحساسنا بالعالم، وإيماننا بأن ما كان من وجودنا يجب أن يستبدل به ما هو أحسن… إن الكلمة هي التي تقود الإنسان إلى الطموح الذي يصل إلى التدخل في الطبيعة الإنسانية ذاتها، إيماناً بأن الإنسان حركة وتجدد وحياة لا تعرف الجمود والسكون… الكلمة الصادقة هي التي تجعل الإنسان يحب الحياة ويفتح ذراعيه لها بكل إيمان وشغف وقوة… هي التي تجعله يسمو عن الإحساس المتكرر والمألوف.. هي الفعل الجديد أمام مسارات الوجود وتجاربه.. هي الصور النبيلة الفذة الخلاقة التي تريد الأسمى والأجمل.. هي التي يمكنها أن تجعل الإنسان يفكر ويتأمل ويطلب المعرفة، وينشد الاستقرار والاطمئنان، وتطلب منه ألا يستغرق في اللذة فيكون وضيعاً، ولا يستسلم لهموم الوجود ومشاكله الصغيرة، فيكون عبداً للقدر، ولا يفكر بما لا يجدر به التفكير فيه، فيتردد ويجبن.
الكلمة هي مظهر من مظاهر الالتزام بتحرير الناس من كل ما يعانون، وما أكثر ما يعانون من أحزان وهموم في هذه الأيام القاسية المريرة المظلمة… لقد تمزقت رقعة الأمة العربية، وأصبحت نهبة لكل طامع ومرتزق ومأجور… لقد تحكّم في مصائرها الغزاة والدخلاء والجهلة، الذين انتزعت من قلوبهم الرحمة، وأصاب الوهن قيمهم الأخلاقية، وفقد الإنسان فتوة نفسه، وطلب منه الرضوخ لما تأتي به الأيام، وقالوا له: يجب أن تصبح أحمق.. جاهلاً.. ضعيف التفكير.. يجب أن تلعن العصر بأسره، وتلعن الساعة التي ولدتك فيها أمك..
الكلمة الصادقة، تدفع الإنسان إلى رفض الواقع، وتعطيه القوة والقدرة على التحدي، وتجعله أشد ضراوة وعنفاً من أجل صنع الحياة والبقاء، والنزوع إلى الخارق.. الكلمة هي التي تدفع الإنسان إلى اقتحام المجهول، من أجل بناء مكان تحت الشمس، ينشد فيه الراحة والأمان.. هي التي تدفعه لأن يكون الشجاع القوي، الذي لا يعرف السكينة، حتى يحقق فعل الإرادة، وجمال المحبة بين الناس، وروعة الحضارة.. الكلمة الصادقة تتجسد فيها الحرية بالفن، وفي تجارب الحياة اليومية الحافلة بعظيم الفِعال وبالبطولة والشهامة وما إلى ذلك من الخصال.. هي التي تحمل لون صاحبها وطابع شخصيته.. هي التي تفرض وجودها على الناس.. بل هي الفرد جسداً وروحاً… هي هذا وذاك، التي تعيش في الفعل والسلوك.. هي التي تستطيع ترويض الأشياء والأعمال الإنسانية وكل ما في الحياة من فعل وبيان مشرق، وتقف في الساحة أبداً مع الحب، الذي تحترق فيه النفس احتراقاً، ويهب فيه العاشق أيام وجوده.
الكلمة الصادقة، هي التي يمكنها أن تجعل اليأس لا يعرف سبيلاً إلى نفوسنا الكبيرة، هي التي يمكنها أن تجسد عظمة أمتنا العربية من جديد، وتجعلنا لا نعرف في الحياة إلا الحب والإباء والعنفوان وسمو الروح، والإرادة الخلاقة، التي تبعث العظمة في النفوس، وتهدينا إلى طريق التحرر من أغلال الحقد والدسائس والغيرة والبغضاء والتخلف والفقر والتشرد والأزمات، ورفض الفاجع، والفرار من الحقيقة.
إن الحزن، هو الإشارة البليغة إلى أن الأزمة المريرة يمكن أن تكون انبعاثاً جديداً في حياة القيم، لأن الإنسان فيها يحتضن الانهيار، معترفاً بضراوة ما حدث، وهذا ما يمكن أن يمنحه تصميماً على الانعتاق من ويلات وفواجع كثيرة.. الكلمة هي إرادة الحياة ودائماً هي الأقوى في كل حين.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن