لماذا يصرّ الأكراد على أن يكونوا «كعب آخيل» البلاد؟
| عبد المنعم علي عيسى
انصبّت جهود الأكراد السوريين منذ بدء الأزمة السورية على محاولة استنساخ سيناريو الشمال العراقي بعد سقوط بغداد العام 2003 م (كانت احتجاجات آذار 2004 تمثل محاولة مبكرة وهناك معلومات تؤكد أن قوات الأسايش قد تأسست في أعقاب تلك الاحتجاجات وإن لم تعلن إلا في صيف العام 2012)، وهو ما مهدوا له بعلاقة (فوق تحالفية) مع تل أبيب بعدما أدركوا محوريتها التي ظهرت بعد اعتقال عبد الله أوجلان 15 شباط 1999، تلك العلاقة أفضت إلى الضغط على واشنطن لإحداث اختراق في التعنت التركي الذي من شأنه أن يؤدي إلى ولادة كيان كردي موسع الصلاحيات في شمال العراق.
بُددت الآمال الكردية في ذلك الاستنساخ عندما قامت المقاتلات السورية يومي 17-18/8/2016 بقصف مواقع قرية في محيط الحسكة قيل إن فيها مستشارين أميركيين وعلى الرغم من التصريحات المتكررة لمسؤولين أميركيين بعدم وجود نيات لدى واشنطن في إقامة منطقة حظر جوي فوق مدينة الحسكة إلا أن الرهان الكردي كان واضحاً على نوع من تصريحات استفزازية كانت تتناولها وسائل الإعلام كما لو أنها ترسم توجه الأميركي الجديد، منطقياً أيضاً فإن واشنطن لم تلب مطالب الحليف التركي (الناتووي) التي كانت في ظرف أفضل بكثير مما هي عليه الآن لإقامة منطقة حظر طيران فكيف لها أن تفعل والحليف الآن هو الكردي الأقل وزناً بكثير وفي ظروف معقده يحكمها التدخل العسكري الروسي في الأزمة السورية منذ 30/9/2015 وما يرافقه من نشر لصواريخ إس إس 400 بعد ذلك التاريخ.
لم تكن القيادة السورية بقاصرة على التقاط المؤشرات التي كانت تؤكد وجود ميول انفصالية مبكرة لدى الأكراد، ظهر ذلك بوضوح منذ أن ذهب حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي إلى وضع يده على آبار النفط في الرميلان العام 2012 على الرغم من أن تلك العملية كانت قد تمت بدعم جوي من سلاح الجو السوري فقد كانت القيادة السورية ترى في الأكراد حليفاً قادراً على المساعدة في ضبط مساحات شاسعة من الجغرافيا تحتاج إلى مئات آلاف الجنود وهو في الآن ذاته يشكل شوكة في الحلق التركي الطامع في ابتلاع الجغرافيا والبشر السوريين في آن واحد.
تقول المعلومات إن حزب الـPYD كان قد عرض على الأميركان منذ شهر كانون الأول 2015 القيام بعملية عسكرية تهدف إلى إخراج الجيش السوري من الحسكة في مقابل تعهد واشنطن ودفع رواتب الموظفين الذين لا تزال الحكومة السورية تدفع رواتبهم إلى هذه اللحظة إلا أن الأميركان رفضوا الفكرة ومع ذلك فضل الأكراد المقامرة من جديد فقاموا بإعلان (روج آفا) 16 آذار 2016 التي تقرأ على أنها لحظة تحفز كردية تتحين ظروفاً مناسبة أو إشارات الخارج، كان المتوقع ما بعد روج آفا أنت وتتتالى سريعاً الخطوات الكردية التصعيدية إلا أن العائق كان قد تضاعف، فبعد إصرار واشنطن على إبقاء العلاقة مع الأكراد علاقة عسكرية وعدم ربطها بأي دعم سياسي أو مالي رفض البريطانيون والألمان (وبالتالي الأوروبيون) التعاون مع المؤسسات الكردية أو تمويلها وهكذا سارت الحالة على وضع ستاتيكو حتى مطلع شهر آب الجاري الذي شهد على هذا التصعيد متحولين اثنين دفعا باتجاه المغامرة الكردية من جديد، الأول هو نجاح قوات سورية الديمقراطية المدعومة أميركياً بالسيطرة على منبج 6/8/2016 بعد دحر داعش منها والثاني المخاوف الكردية الوليدة من التقارب التركي- الروسي- الإيراني واحتمالات أن يفضي إلى تقارب تركي- سوري على خلفية الإحاطة بالمخاطر المستجدة ولم يكن مفاجئاً أن وفد الأكراد للمفاوضات في حميميم كان قد طالب دمشق بوقف أي تفاوض لها مع أنقرة حالياً أو لاحقاً.
ليس هناك أدنى شك بأن تحرك الأسايش في الحسكة كان بقرار من قيادة جبل قنديل التي ارتأت أن دمشق هي الآن في أوهن حالاتها السياسية فيما المتوقع هو استعادة عافيتها قريباً على ضوء التطورات السياسية والعسكرية الحاصلة وتلك (وهذا ما زال تحليلاً في القراءة الكردية) ذروة يجب عدم إضاعتها، إلا أن السؤال الأهم هو هل كان قرار قيادة جبل قنديل بدفع أميركي أم لا؟! وعلى هذه الإجابة تتوقف آفاق المرحلة المقبلة فإذا كان الجواب نعم (وهو الأرجح) فإن التوجه الأميركي ذاهب نحو إنضاج منطقة كبرى تشمل الشمال السوري إن لم يكن أكثر، وإذا كان الجواب لا فإن الأكراد قد قرروا كأي مقاتل انغماسي تفجير أنفسهم بعد نفاذ ذخيرتهم، ومهما تكن الوقائع فإن اتفاق حميميم لا يتعدى كونه وقفاً لإطلاق النار وهو لا يملك أدنى مقومات الديمومة أو الاستمرار وهو معرض للانفجار أو الانتكاس في كل لحظة بل إن الراجح هو أن ينتكس بأقرب وقت قياساً على المعطيات وتداعيات الأحداث.
خلاصة القول أن الرهان الكردي المحموم بإقامة منطقة حظر جوي تمتد من الحسكة إلى عين ديوار على الحدود السورية العراقية التركية قد فشل والأصح أن لا أفق له وهو ما انفك المسؤولون الأمريكان على تكراره منذ اندلاع أحداث الحسكة وبشكل يومي، إلا أن نتائج ذلك الرهان كانت كارثية- وعلى الأكراد بالدرجة الأولى- فقد أدى إلى استجلاب التدخل العسكري التركي بذريعة سحق الآمال الكردية في قيام كيان كردي مستقل في الشمال الشرقي من البلاد.
كان لافتاً أن إطلاق عملية (درع الفرات) التركية للسيطرة على بلدة جرابلس (كما هو معلن) قد جاء في يوم 24 حزيران 2016 وهو اليوم الذي يوافق الذكرى الخمسمئة لمعركة مرج دابق التي كانت في 24 حزيران 1516، وهي (عملية درع الفرات) عدوان تركي كامل الأوصاف والمعلن عنه لا يشكل سوى جزء بسيط من الحقيقة، بل إن ذلك العدوان يثبت أن لا استدارة تركية حقيقية في معالجة الأزمة السورية وجميع التصريحات المرنة التي أطلقت خلال المرحلة الماضية لكسب ود دمشق كانت لذر الرماد في العيون بل إن الأرجح أيضاً أن الروس قد خدعوا أيضاً فقد استطاع الأتراك عبر تزلفهم وانبطاحهم أمام القيصر كسر الفيتو الروسي الذي كان قائماً منذ إسقاط الطائرة الروسية 24/11/2015 والذي كان قد حرّم الأجواء السورية على الطائرات التركية، وفي كل الأحوال فقد استعاد الدور التركي حيويته من جديد في الأزمة السورية بعد أن كاد يضمحل أو يندثر، ومن المرجح أن يتنامى إلى أكثر مما هو عليه الآن بكثير، فالعملية العسكرية التركية لن تقف عند جرابلس ومحيطها بل ستصل ربما إلى منبج بذريعة طرد الأكراد منها وفي الغضون ستكون العين التركية على حلب.
بالطبع لن تكون العملية التركية نزهة وهي معرضة للكثير من المخاطر خصوصاً عندما تتكشف النيات التركية أكثر عبر الخطوة اللاحقة التي ستخطوها القوات التركية فأن يستطيع الأتراك إيجاد ظل للأمير (خيربيك) الذي قادت خيانته للأمير المملوكي قانصوه الغوري في معركة مرج دابق 1516 الذي خرج للتصدي لقوات العثمانيين بقيادة السلطان سليم الأول فإن ذلك اليوم لا يكفي، وإذا قبل «الجيش الحر» أن يمارس ذلك الدور فذلك لا يعني أن تداعيات مرج دابق مقبلة في المراحل اللاحقة.
في نيسان من العام 1975 قام تحالف سمى نفسه يسارياً بين ياسر عرفات وكمال جنبلاط في لبنان بإعلان الحرب على «اليمين» اللبناني (كلّ لمآربه) بمختلف تياراته وأحزابه، ولربما كان ذلك بضوء أخضر سوفييتي يريد أن يرى «إمارة يسارية» يتحكم بها في قلب الشرق الأوسط إلا أن تطورات الصراع وسوء تقدير القيادات «اليسارية». قد أديا إلى استجلاب التدخل العسكري الإسرائيلي لمرتين متتاليتين في ظرف أربع سنين فقط الأولى في العام 1978 والثانية في العام 1982 وفي هذه المرة الأخيرة وصلت القوات الإسرائيلية إلى حدود بيروت وكانت النتيجة خروج منظمة التحرير منها بل من كل لبنان إلى تونس عبر اتفاق أيلول 1982 تلاه بروز مقاومة استطاعت دحر العدوان الإسرائيلي من لبنان في 25 أيار 2000، كانت تلك الحسابات الخاطئة وتداعياتها قد شكلت مدخلاً لمتاهة أوسلو 1993 التي لم يصل المتباريان (الإسرائيلي والفلسطيني) فيها إلى خط النهاية وقضم الآن على الرغم من أنها بدأت منذ ثلاثة وعشرين عاماً ونيف وفيها كانت تل أبيب تعمل على تدمير البنى الفلسطينية وقضم المزيد من الجغرافيا.
هذه نبوءة سياسية لدخول الأكراد السيناريو نفسه (كما الأتراك) نظراً لتشابه الظروف والمعطيات وحماقة القيادات، ليبقى السؤال الذي يجوب أرجاء الذات الجماعية للسوريين هو: لماذا يصر الأكراد على أن يكونوا – وبحسابات خاطئة- كعب آخيل دمشق؟