من دفتر الوطن

تَبَلِّي المثقفين!

| حسن م. يوسف 

دعونا نعترف أن كل القوى المتصارعة على الأرض السورية، المحلية منها والمستوردة، تجمع على أن «خيانة المثقفين» هي من أهم أسباب المحنة التي تعصف بنا. فالذين يعرفون والذين لا يعرفون، هنا وهناك، يحمِّلون (المثقفين) مسؤولية حالة الاستعصاء التي صرنا إليها، كما لو أن المثقفين طبقة متجانسة من (الشخصيات الخارقة!) التي يجدر بها أن تحل محل المجتمع وأن تقوم، نيابة عنه، بحل مشاكله، والتصدي للتحديات التي يواجهها، جاهلين أو متجاهلين أن المثقفين هم شريحة من الشعب فيهم الوطني والفهيم وفيهم الانتهازي واللئيم، فيهم العميق وفيهم الضحل، ولا يجوز الحكم على أدائهم كما لو أنهم متماثلون متطابقون ومتكافلون متضامنون.
المؤسف في الأمر هو أن من يروجون هذا التصور الساذج المفرط في عاميته وابتذاله ليسوا من البسطاء وحسب، بل إن بعضهم يطلون علينا من شبابيك الثقافة، غير أنهم يستسهلون إطلاق الأحكام والكلام العام، من دون أن يكلفوا أنفسهم عناء التفكير. والحق أن هؤلاء يذكرونني بنكتة من أضاع شيئاً ثميناً فراح يبحث عنه تحت مصباح الشارع، ولما سئل لماذا يبحث عما فقده بعيداً عن المكان الذي أضاعه فيه، قال: لأن المكان هنا مضاء!
لقد سبق لي أن قلت من دون مواربة، إن أداء المثقف السوري والعربي كان من الممكن أن يكون أفضل وأشمل وأرقى، لكن اتهام جميع المثقفين بالتقصير، دون غيرهم من فئات المجتمع، فيه ظلم كبير للمثقف أولاً وللحقيقة أخيراً.
صحيح أن بعض المثقفين العرب باعوا أنفسهم ووضعوا ثقافتهم في خدمة من يدفع أكثر، لكن بعضاً آخر من المثقفين أدوا الأدوار المناطة بهم، ونبهوا إلى الأخطار المحدقة بأمتهم وكانوا نعم الناصح الأمين لشعبهم.
في عام 1904، أي قبل ولادة الكيان الصهيوني بحوالى نصف قرن، نبه المفكر اللبناني نجيب عازوري في كتابه «الخطر اليهودي العالمي» إلى الخطر الصهيوني الذي كان يتشكل في فلسطين ورأى في وحدة العرب سبيلاً للتصدي لذلك الخطر وأطلق نبوءة أثبت التاريخ عمقها وصوابها إذ قال: «ظاهرتان مهمتان لهما الطبيعة نفسها بيد أنهما متعارضتان، لم تجذبا انتباه أحد حتى الآن تتوضحان في تركيا الآسيوية، أعني: يقظة الأمة العربية وجهد اليهود الخفي لإعادة تكوين مملكة إسرائيل، مصير هاتين الحركتين أن تتعاركا باستمرار حتى تنتصر إحداهما على الأخرى وبالنتيجة النهائية لهذا الصراع يتعلق مصير العالم أجمعه».
وقبل إعلان ولادة الكيان الصهيوني، قام مثقفان سوريان هما بشير كعدان وشفيق شالاتي بزيارة لفلسطين ووضعا كتاباً بعنوان «هؤلاء الصهيونيون». صدر عن دار اليقظة العربية بدمشق عام 1946 فنَّدا فيه مزاعم (اليهود) ووصفا ما يجري في فلسطين بأنه: «مشروع استعماري»، فالبريطانيون والأميركان «يريدون أن يجعلوا من فلسطين مركزاً إستراتيجياً ممتازاً للتسلط على البلاد العربية». والخلاص الوحيد برأيهما يكمن في: «منع تسرب الأرض للصهيونيين، ومقاطعة بضائعهم».
وفي آخر الكتاب يطلق المؤلفان هذه النبوءة الجارحة: «وإذا توانوا- أي العرب- عن نصرة إخوانهم عرب فلسطين ووقفوا موقف المتفرج، هان أمرهم على جميع الأمم وأصبحوا هدفاً سهلاً لكل طامع»… «وتنهار كل مهابة لهم في نفوس الخلق، ويسري الداء من فلسطين إلى ما جاورها، وإن من لم يستطع إيقاف الظالمين في رقعة صغيرة من الوطن العربي فلن يستطيع الصمود أمام جحافل الأمم التي لا تعرف لها في الحياة مذهباً سوى القوة والغلبة».
صحيح أن بعض المثقفين تاجروا بالكلمة، لكن المثقف الوطني العربي لم يخن عروبته ولا وطنه، وقد قال كلمته بالصوت العالي وهو ليس مسؤولاً إذا كنا لم نسمع صرخته وتركناها تتبدد أدراج الرياح!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن