عندما يبلغ الهوس مرتبة الأدب
| مها محفوض محمد
رغم أنهم عمالقة الأدب الروسي أثرت مؤلفاتهم في الأدب العالمي وكانت مصدر إلهام للأدب المعاصر. تميزت كتاباتهم بالواقعية التي تمثلت في نقد الحياة بمفهومها الواسع وتصوير واقع المجتمع بشرائحه كافةً.
بوشكين الذي يعد الكنز الأساسي في الأدب الروسي عرف بنزعته الواقعية في الأدب والشعر عبر من خلالها عن الحياة الثقافية والاجتماعية في روسيا فكان أول من دعا إلى المذهب الواقعي في الأدب الروسي، ونيكولاي غوغول الذي نحت بريشة أدبه العظيم في ذاكرة قرائه أيضاً من مؤسسي المدرسة الواقعية ومن آباء الأدب الروسي بل من كبار ممثلي الواقعية النقدية في الآداب العالمية، وثيودور دوستويفسكي الذي يقول: «كلنا خرجنا من معطف غوغول» كان لأعماله الأثر الكبير في عدد من كبار الفلاسفة والعلماء مثل أنشتاين وهايدغر وكافكا وفرويد- هو من أهم الأدباء في العالم واعتبره البعض مؤسس مذهب الوجودية.
مع ذلك فإن لهذه الشخصيات العظيمة نقاط ضعفها ربما من تصوير واقع حياة المعذبين أو من تلك التي عاشها بعضهم كما حصل مع دوستويفسكي الذي عانى من الفقر والسجن فصور محطات الحياة التي تسحق عند الإنسان كل ما هو جميل وعظيم.
عن هذه النقاط التي سميت «عادات مستهجنة مجهولة لدى كبار الكتاب الروس»، تحدثت مؤسسة RBTH الثقافية الروسية عن التشاؤم والهوس عند خمسة من هؤلاء الكتاب قائلة: لقد كان ألكسندر بوشكين متشائما ويعتقد بالخرافة التي قاربت أحياناً حد الهذيان بيد أن هواجسه المصحوبة بالقلق والمحفوفة بالمخاطر تبدت له وكأنها تحققت في كثير من المرات، ففي كانون الأول عام 1825 قرر بوشكين أن يهرب من منطقة الريف حيث تقيم والدته إلى ميخالوفكوي وهي منطقة تبعد 560 كيلومتراً شمال غرب موسكو، المنطقة التي كان منفيا إليها وفي أثناء ذهابه إلى سانت بطرسبرغ شاهد أرنبا بريا يقطع الطريق أمام عربة فاعتبر بوشكين ذلك نذير شؤم وقرر العودة فوراً إلى قرية أمه وكانت الحادثة قد وقعت عشية ثورة الديسمبريين (قامت في 14 ديسمبر عام 1825 حين طلبت مجموعة من النبلاء حسم سلطة القيصر وإقامة دستور) ولم يتابع بوشكين طريقه إلى سانت بطرسبرغ وبالتالي لم يستطع الالتحاق بثوار ساحة مجلس الشيوخ الذين كان عقابهم النفي إلى سيبيريا لقضاء بقية حياتهم هناك.
كانت تلك إحدى أفضل القصص التي أحب بوشكين تكرارها وقبل عشرين عاماً من موته التراجيدي أيضاً كان قد تنبأ بأنه سيقتل على يد رجل أبيض وفعلا في العام 1837 أصيب بوشكين بجرح قاتل في مبارزة مع البارون جورج دانتس الذي كان يلبس معطفاً أبيض.
أما نيكولاي غوغول فكان رجلا غريب الأطوار شاذ الطباع مسكوناً بالقلق والهم والهاجس، والذي كان يستحوذ على عقله فهو رعب القبر حيث كان يخاف من أن يدفن حيا وكي يتجنب هذا المصير المرعب له كان ينام دائماً وهو جالس، ومن ثم أضاف بندا إلى وصيته وهو ألا يتم دفنه إلا بعد أن يبدأ جسده بالتحلل بصورة واضحة.
مات غوغول عام 1852 وفي العام 1931 تم نقل رفاته إلى مقبرة نوفوديفيتشي وشهود عيان على نبش القبر رووا أن جسد الكاتب كان في وضعية غير طبيعية أبداً وأن آخر حركات له توحي بذعره الشديد من لحظة الموت.
وتتابع الصحيفة عن صرح الأدب الروسي ثيودور دوستويفسكي الذي كان لديه أيضاً نزعة الخوف من الدخول في حالة نوم السبات وقد يكون ذلك نتيجة مرض الصرع الذي أصيب به. «ففي كل مرة قبل ذهابه للنوم كان يطلب مني ألا ندفنه إلا بعد ثلاثة أيام من موته في حال دخوله حالة الاغماء» هذا ما يذكره قسطنطين توروتوفيسكي في مذكراته حول دوستويفسكي، ويروي في أول كتاب خصصه له قائلا: كان يعيش في حالة رعب مستمر وهو معروف بحالته الصحية الجسدية والعقلية غير المستقرة إلى درجة أنه استرعى انتباه سيغمون فرويد الذي خصص له عدة مقالات.
وحالات أخرى قد تكون مختلفة بعض الشيء لدى كتاب آخرين مثل فلاديمير نابوكوف صاحب رواية (لوليتا) ونابوكوف كان حالة مختلفة في هذا المجال فقد كان يكتب رواياته على بطاقات صغيرة مستطيلة الشكل تتسع كل منها لنحو 150 كلمة فلم يكن يكتب خطوطا منتظمة بل يسجل أفكاره التي تأتيه بطريقة عشوائية ولم يكن يرقم أو يجمع سطوره في نص واحد إلا بعد نهاية المشروع، وكانت هذه الطريقة الشاذة في العمل تتسبب في إرباك كبير لدور النشر كما حدث يوم نشر آخر رواية له «أصل لورا» ولم تكن مكتملة حيث كان قد كتبها على 138 بطاقة من دون أن يرقم أياً منها قبل موته ما تطلب نحو ثلاثين عاماً من الجدل بعد وفاته حول ترتيب الرواية ونشرها وساد التساؤل في الأوساط الثقافية هل كانت هي الرواية التي تحسب نابوكوف لإصدارها؟ وبقيت موضوع جدل عشرات السنين.
أما عند الكاتب ايفغيني بيتروف – وهو واحد من الكتاب الذين شاركوا في تأليف «أميركا على مستوى واحد» وله رواية «12 كرسياً»- فإن للهوس حكاية أخرى حيث كان هذا الكاتب مهووسا بكتابة رسائل إلى أشخاص وهميين فقد كان يختلق أسماء وعناوين ليرسل إليها الرسائل في كل أنحاء العالم وعندما تعود الرسائل إلى المرسل حتماً كان بيتروف يستمتع بالمغلفات المغطاة بالطوابع والأختام الأجنبية، وبحسب ما روي عنه فإن بيتروف أرسل في نيسان 1939 رسالة إلى نيوزيلاندا مستخدما طريقته في ابتكار عنوان المرسل إليه وثمة من سماه ميريل أوجين ويلسلي، وحيث إن الرسالة لم تعد إليه في غضون أشهر اعتبر بيتروف أنها ضاعت إلا أنه في شهر آب من العام ذاته حمل إليه ساعي البريد رسالة من نيوزيلاندا تضمنت صورة للكاتب يعانق رجلا لم يكن قد رآه في حياته وفي سعيه لفهم ما حدث كتب بيتروف رسالة ثانية إلى ذلك الشخص الغامض ويلسلي لكن الزمن لم يسعفه فقد فارق الحياة قبل أن يتلقى الجواب.