صوم عابد وشام
إسماعيل مروة :
يغمرك شلال من دمار أسود، فلا تستوعب عبق الخصلات التي تتدلى على وجهك المتعب من إنسان ووطن، تحار في اللون المتدرج بين حنين وحنين، وعلى حافة شوق تنادي وطنك المتعب، يجيبك الأحمر المنهمر في كل مكان، الأصفر الذي يدلق روحه بين يديك، وحين تهم بمعانقة وطن تبتعد يداك، تصبح اليدان مشلولتين غير قادرتين على تناول أي شيء! تهم بالسجود على روحك لوطن أدماه الحنين والاغتصاب والانتهاك، لكن القدمين لا تحملانك على السجود والنهوض! وتبقى مكوماً على روحك الثكلى المكلومة! يختنق ومعك، يستباح دمك، لا وجود لكلماتك، معجمك يتوه عنك، تستنجد بالمعجمات التي جادت بها قريحة العباقرة، فلا معجم يسعفك، وإن وجدته نسيت التعامل معه، ولم تسعفك كل وسائل الاتصال والتواصل في الكون أن تفهم مفردة انسربت من بين حجرين أو حبتي رمل، أو حتى بين اغتصابين أدميا الوطن الممدد الذي لا يلوي على شيء، ولا قدرة لك على فعل شيء لأجله! حتى الجنون يعجز عن إسعافك للتواصل مع وطن ممدد من البحر إلى البحر، من السهل إلى الجبل، من الروح إلى الروح! عاجز أنت ولا يدري أنك تعجز عن التقدم خطوة! يبقى الوطن الممدد في العينين، ونرحل نحن، ويعيش الوطن بنا وبغيرنا، لكنه يوهمنا أننا الأهم، وأنه لا يمكن أن يستمر دون وجودنا المرحلي..!
تختنق يا هذا، تخذلك الكلمة، لا تسعفك العبارة، وأنت تتلقى وحياً من شام ونسماتها المنهلة على روحك، قد تجود، قد تبخل، قد تفعل ما تريد أنت، وعندما تفعل تجدك عاجزاً عن الرد والقيام، إنها عظمة الأوطان التي اختارها المرء بملء حبه، يتمرغ على عتبات الوله بها، يتمنى أن ترى، لكن يتمنى في داخله ألا تقرأ عليه آيات من آياتها التي لا تصلح إلا للعابدين، وإن لوثها أصحاب المواقع الرفيعة!
شام.. أيا وطن الأمان والذكريات
شام.. أيتها المجدلية التي أدمت يسوع في ملكوته لأنه لم يشهد براءتها، كما برأ مجدليته.
شآم أيتها المصون التي لا يقدر أحد على تلويثها.. يغيب صوتك دهراً، وحين يهمي يكون غيثاً مباركاً، ثلجاً غامراً، شمساً حنوناً، قمراً منيراً، ضوءاً لا يخفت، نجماً لا تخفيه شمس مهما بلغت.. حبالك الصوتية تفعل في العابد فعل الأسر لا السحر، كل فاتنات الكون ومدائنه تحتاج السحر، ووحدك الأسر، يأتيك عابدك مأسوراً بنفسه ولنفسه، يضع قيده في يديه ويأتي سعيداً بأن يكون أسيراً يشهد إغماضة عينيك الملائكية عندما يسدل الليل ستائره، ويغني لانبثاق النور في عينيك كل صباح، فمنهما تخرج الشمس، ويتدحرج النور في كل مكان ليغمر الكون من عطائك المختلف بكل تفاصيله التي يعرفها العابد، والتي لا يعرفها..
مدين لك العابد بعبوديته! هل وجدت عابداً عبداً يحب عبوديته إلا على أعتابك؟!
في شام وأزقتها وعلى قاسيونها تصبح العبودية حالة من حالات ألوهة ووله!
على القمة العالية ينادي على الحب، الحب هو الفلاح الذي لا خيبة بعده، ومن حب إلى حب يدلف العابد بحثاً عن الأربعين- عن ذي الكفل، عن أهل الكهف، عن الصالحين، عن العظمة، يحاول اكتشاف هوية من خط في ربوتك كلمة (أذكريني) ورحل..! قالوا: أحب وأخفق، وحدها شام تعلم أنه أحبها هي، وأنه تماهى بها ومعها هي، وأنه لم يرحل، بل انزرع في كل ثنية من ثنياتها، وها هو ينسرب مع كل قطرة ماء تشجب من نبعك الذي لا شبيه له.. هناك في قمتك يرقد هابيل.. هناك الجد قابيل.
الغراب الأسود فيك كان صالحاً، علّمه كيف يواري سوأة أخيه
رحل وبقي دمه يصبغ صخراتك، فيك كان الحب الأول، وعلى أرضك كان الافتداء الأول.
العالم يدور حولك ولا تدورين على أحد، يبحث عنك ولا تبحثين عنه.. للكون نيزك من نور، لا نار فيه، خرابك بناء، موتك خلود، دمك قارورة عطر نبيل، لا شيء يطول ألوهتك وقداستك، وصوم لعينيك يبدأ ليرافق صلاة على سجادة لا تعرف غير جبهة العابد، وما يقطر من ماء وضوء بقداسة التراتيل.. رددي على مسمع الكون فأناشيدك مزامير شام..