اعتدال!
غسان كامل ونوس:
كثيرة هي الكلمات، والمسميّات، والشعارات، التي فقدت بريقها وجاذبيّتها، بعدما سُوَّقتْ تحويراً لمفاهيم أخرى، وتمريراً لأفكار مغايرة، وأسيء إليها بترويجها ممن لا يليق بها، وشُوّهت بشكل فاضح، باستخدامها تسويغاً لأعمال شرّيرة، وتعميةً عن أهداف وغايات قاتمة، ومُرّغت بالدم الحارّ والمتخثّر، شؤماً وكمداً؛ الحريّة، الديمقراطية، الاستقلال، الثورة، الجهاد..
وتدخل كلمة «الاعتدال» سوق النخاسة هذا؛ فصارت تُربَط لفظاً أو معنى إلى بعض الكلمات والمصطلحات المعروفة والمألوفة، لتصبح مقبولة!
وعلى الرّغم من أنّ مفهوم الاعتدال سلس ورضيّ وأليف، في كثير من الحالات والمجالات والمواقف، وله وقعٌ حسنٌ ومريح؛ لكنّه لا يصلح في مواقع أخرى، ولا يصحّ زجّه حيث يضرّ بالمعنى، ويؤذي المقام، ويعطّل المسار، ويفتك بالمصير!
ومن الواضح في مجرى الأحداث المعاصرة، المترافقة بالضجيج الإعلامي، والتشويش المتعمّد والمدروس، الاعتماد على مثل هذه السلوكات والدعايات جزءاً مؤثراً من الاستهداف/العدوان، الذي بات يَستخدِمُ أساليب وعناصر أكثر حداثة، وأوسع جمهوراً، وأعمقَ تأثيرا،ً وأطول زمناً..
فبات الاعتدال مطلوباً في السياسة، وفي الدفاع عن الوطن، وفي التعامل مع الخارجين على القانون، وفي التواصل مع الأعداء.. وصارت كلمة الاعتدال لازمة تتردّد حيث لا يلزم، ولا يُقبل، وبما لا يطاق..
ففي إضافتها ما ينفّر، وفي تعويمها ما يُغيظ؛ فالموسوم بها، أو المتعلّقة به، يعتوره لبس، أو شكّ، أو سمعة لا تليق، أو سمة غير محبّبة؛ ولا سيّما حين يخرج الكلام، ويُعمَّم من مصادر اعتادت على المساومة، والمناورة، والتضليل، والمراوغة..
فالتباهي بأنّ جماعة ما تؤمن بالإسلام المعتدل مثلاً، يدلّ على أنّ الإسلام وحده لا يُقنع، ولا يكفي للدلالة على الطريق القويم، أو الاعتقاد السليم؛ بل لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذا الإسلام مختلف عن إسلام آخرين، وهل هناك أكثر من إسلام؟! وهل الإسلام المعتدل أقلّ بصلواته وركعاته وسجداته، وأركانه وكِتابه.. من سواه؟! أم إنّ من يدّعي الاعتدال، ويمنّنا عليه؛ ربّما يمنّ به على الإسلام نفسه؛ إنه دليل على أنّ في الإسلام ما لا يُرضي؛ حديثاً ورواية وتفسيراً وتأويلاً، وممارسة، وتكفيراً.. ومثل هذا الاستنتاج يختلف عمّا يمكن أن يتمّ بناء على دراسة أو بحث أو اجتهاد؛ يمكن الحوار والنقاش حوله من مختصّين أو فقهاء؛ بل هو تقرير نهائيّ، وحكم قاطع..
وما يزيد الأمر تفاقماً وإساءة، أننا نردّده نحن، مختلفَ الشرائح والمستويات، بسذاجة، أو نتبنّاه، على الرغم من أنّ أعداء الإنسانية الموصوفين هم الذين يطلقون مثل هذه التسميات، ويروّجون لها، ويطلقون المسميّات «الاعتدالية» على الجماعات المرتبطة بهم، تلك التي تنفّذ تعاليمهم، وأوامرهم، وهؤلاء هم في نظر المسلمين كفرة! لكنّ هؤلاء المعتدلين من المسلمين يرونهم غير ذلك، ويصبح أمر التبرّك بهم، وتحقيق أغراضهم، واستباحة أولئك لمقدّرات هؤلاء وأموالهم، التي تدفع ثمناً لأسلحتهم، الضاربة في كلّ مكان.. أمراً مشروعاً؛ فياله من إسلام واعتدال!
وليت الأمر يتوقّف على هذا؛ فالمعارضة «المعتدلة» أيضاً باتت الجماعةَ المكرّمة من الغرب الاستعماري -والأعراب التابعين-، والفصائلَ التي تحظى برعايته، ودعمه وتسويقه؛ فيدرّبها، ويمدّها بالسلاح الفتّاك أو غير الفتّاك؛ لم يعد هذا مهمّاً؛ لأنّها المعارضة التي تستحقّ أن تستلم السلطة، على الرغم من عجزها المزمن داخليّاً، وافتقارها إلى التأييد الشعبي الظاهر؛ فهي تقبل التدخّل الخارجي، حتّى لو كان عسكريّاً، وترضى بالتعامل مع أعداء الوطن، حتّى لو كان ذلك مع العدوّ الصهيوني المغتصِب للأرض والحقوق، وتسكت عن تدمير البلد، وتهجير أبنائه، وترعبهم، وتقتلهم، على الهوية والانتماء، والعقيدة، والرغبة، والاسم، والسحنة، واللهجة.. فأي اعتدال هذا؟! وأي معارضة، وموقف، ورؤية؟!
لقد دخلت كلمة الاعتدال مجال استخدامنا اليومي، وباتت تُتداول آليّاً، وفي مجالات متعدّدة، وبمناسبة وغير مناسبة، وبشكل ملائم أو غير ملائم؛ لكنّ هذا– وإن كان مطلوباً ممن أطلقها- لا يمنحها المشروعية، ولا يجمّلها، بعد أن أصابتها عدوى الامتهان والاستغلال والانتهاك؛ فباتت مؤشّراً إلى المرض، ومدعاة للنفور والاشمئزاز؛ لأنّها توحي بالتبعيّة، والاستكانة، والاستسلام..
وهي – لا شك- تستحقّ أكثر من هذا الكلام، وأخشى ما أخشاه أن توصف مقولاتي هذه بـ«الاعتدال»!!