نجاح حفيظ… الأم التي أبكت المشاهدين
| أنس تللو
تُنْبئُكَ قسماتُ وجهها الحانية بماضٍ فني عريق، وتخبرك كلماتها الهادئة عن أيام مآسٍ وقحطٍ قديم، لكن روحها المتوثبة تؤكد أن فنها الراقي متجدد دوماً، وأن قدرتَها الباقيةَ قادرةٌ أبداً على الاستمرار والتخطي.
لها ماضٍ فنيٍّ عريق ربما دفنته بيديها، أو لعلَّه طواه لها الزمان في يوم من أيام السواد الكبير.
ولعلها هي لا تدري ما السر الكبير الذي يكمن وراء ذلك الخفاء… وبالتالي فإنها هي نفسها لن تتمكن من أن تروي لك قصة حياتها، فلقد رأت الآخرين وتحدثت عنهم، وعرفت الكثيرين وعاشرتهم، وخبِرت العديدَ العديدَ من الناس لكنها لم تعرف نفسها من هي.
تحمل في نفسها قصصاً جمة، وتحكي حكايا عديدة…
فنانةٌ لامعةٌ وممثلةٌ قديرة، ويكفي الإنسان أن يكون إنساناً فعالاً يحيا ليختزن ما يختزن، فما بالك إن كان فناناً قديراً كبيراً عريقاً.
إنها تلك الفنانةُ العظيمةُ (نجاح حفيظ) التي تتحاشى أن تتربعَ فوق عرشٍ يُبسط أمامها، لا لشيء وإنما لأنها كانت وما زالت قامةً فنيةً هائلةً عظيمة…
إنها لا تمثل تمثيلاً، ولا تظهر على غير ما هي عليه، إنها هي هي، تقول هنا ما تقوله هناك،.
تمكنت هذه الشخصية الظريفة اللطيفة من أسر قلب غوار الطوشة الذي تمنى الزواج منها، ونافسه في ذلك رفيق دربه حسني البورزان آنذاك، في مسلسل صح النوم، فأخذا يتنافسان على التقرب منها وكسب ودها… لكنها في النهاية- وليس عجباً- أحست بأنوثتها الفذة وأدركت بعقلها الأنثوي البارع أن أياً منهما لا يصلح لها زوجاً، فغوار رجل مُلَعوَنٌ فتَّان ذو مشاكل عديدة، وحسني رجل عاقل هادئ متزن، وهي تدرك أن شخصيتها القوية لا تتوافق مع أي منهما، لذا فقد استأثرت لنفسها بشخصية ضعيفة هشة وهي ياسين بقوش، العامل في الفندق الذي تملكه، تزوجته رغبة منها في زوج لين مطيع حسبما كانت ترى منه من خوف لها لأنها مديرته في الفندق، وتزوجها هو ظناً منه بأنه سيرفع من شأن نفسه ويغدو هو زوج المعلمة الكبيرة فيرتقي في المنصب تماماً كما يترفع الموظف بسرعة أحياناً فيصبح رئيساً لأحد رؤسائه السابقين بعد أن كان مرؤوساً لديه… لكن هذه المعادلة الموهومة لم تكتمل، لأن فطوم لم تتزوج حبيب قلبها حسني البورزان الرجل القبيح الشحيح، فكان أن صبت جام غضبها على ياسين؛ ما أدى إلى أن تصبح جبهته ووجنتاه محطاً دائماً للطماتها وصفعاتها، ذلك الدرويش المسكين الذي طالما حاول أن يسترجل عليها، لكنه كم وكم كان يقابل بدري أبو كلبشة رئيس المخفر ليشكو منها ضربة يد أو كعب حذاء… ولكن بالمقابل كانت هي تحس بالطعنات أكثر وتدرك أنها تصفع نفسها قبل أن تصفعه، فقد خاب أملها في اختيار رجل حقيقي تتكل عليه… وتقودني الذاكرة هنا إلى المشهد المشهور الذي تشعر فيه فطوم بالحسرة الكبيرة لأنها تزوجت رجلا هشاً فتقول لزوجها ياسين بقوش:
– لك ولي على آمة حظي أنا، لك والله مشتهية شي يوم تصرخ فيني شي صوت، مشتهية شي مرة تضربني شي كف، كف واحد بس.
هنا أحس ياسين بقوش بالتحدي الكبير، فأخذته الحمية، وصاح مسترجلاً بأعلى صوته:
– لك إذا هيك بسيطة ها… ورفع يده وصفعها على خدها، فصعقت فطوم وبهتت، وصاحت:
– لك ولا، عمتمد إيدك علي، أنا بورجيك.
وركضت وراءه وهو يخرج لاهثاً من الفندق، مستغيثا بأهل الحارة الذين تدخلوا لينقذوه من مرارة الانتقام المريع.
فطوم حيص بيص أمضت حياتها الفنية تتعامل مع الفن على أنه رسالة سامية ولم تكن تسعى إلى جمع المال.
دخلت نجاح حفيظ الفن وهي في السادسة عشرة، لكنها في حقيقة الأمر لم تكن تمثل، بل كانت هي هي.
كانت الفنانة إذا طلب إليها أن تقدم دوراً لا تدرسه دراسة أو تتدرب عليه، بل لقد كانت تعيشه حقاً، تغوص فيه وتتقمصه وتعيش في أعماقه وما تزال تتقمصه وتتقمصه حتى تغدو هي تلك المرأة التي في داخل العمل، لذلك فإنها لم تكن تمثل بل كانت تعرض روحها السامية من خلال الفن.
وقد قالت نجاح حفيظ عن نفسها إنها تعتبر مسلسل (البقعة السوداء) هو العمل الأقرب إليها، فقد كانت أماً لشابين، أحدهما زُفَّ شهيداً في ليلة عرسه، والثاني يريد السفر من أجل بناء حياته بشكل أفضل، ونجاح حفيظ تمثل دور الأم، وقد تألمت شخصياً وتأثرت كثيراً إلى درجة أنها حين زفوا إليها ابنها شهيداً أثناء التمثيل فقدت الوعي لمدة ربع ساعة بسبب الحزن الشديد، وبعد استيقاظها وجدت كادر العمل يبكون جميعهم دون استثناء.
على الرغم من أن الفنانة القديرة نجاح حفيظ لم تنحصر في الشخصية الأصلية، أي إنها لم تبق حبيسة (فطوم حيص بيص) إلا أن ذكراها بقيت ماثلة في أذهاننا في مسلسل صح النوم على أنها فطوم السيدة التي تتحدث بعفوية تامة وكأنها لا تمثل، تقول كلمات شعبية دمشقية قديمة مثل: يي… وليعلى آمتي… يبعتلي ضربة إن شاء الله…
كانت تتحدث دوماً بلهفة تعبر عن اهتمام سيدة البيت الوقور فتميل رأسها نحو اليسار قليلاً وتمسك بيدها اليمنى بطرف الملاءة التي على وجهها، تبعدها عن فمها ثم تتحدث وسرعان ما تعود إلى تغطية فمها بها، وكأن الفم ينبغي ألا يراه الآخرون إلا عند الكلام.
بعد أن قدمت (صح النوم) في السبعينيات أهملها المخرجون فترة وانتظروا حتى التسعينيات ليقدموها بدور الأم والجدة. (ميمة).
تقول السيدة: إن شخصية فطوم قد أكسبتها محبة الناس وهذه المحبة تعطيها ثقة كبيرة، والثقة تحمل الفنان على الاستمرار في التقدم والعطاء من خلال ما يناله من المحبة الكبرى.
وهي اليوم تطرب أنها ما إن تدخل إلى أي مكان حتى يبدأ الناس بقولهم ( فطوم فطوم فطومة… خبيني ببيت المونة، لما بكره بيجي البرد، مالي غيرك كانونة)
قامت الفنانة نجاح بعدد كبير من الأدوار منها المسلسلات:
يوميات أبو عنتر، أبو جلدة، نهاية رجل شجاع، جدار الزمان، أسياد المال، الخط الأحمر، ساعة الصفر الخوالي.
وعدد من الأفلام منها:
عندما تغيب الزوجات، صح النوم، هجرة القلوب إلى القلوب، أنت عمري.
ألا ليت الجهات المعنية تعاود الاهتمام بفنانينا الكبار الذين يعتبرون مدرسة فنية فطرية (حقيقية)، لم يتعلموا في كلية، ولم تصقل موهبتهم أكاديمية، ولم ينتسبوا إلى معهد، وإنما كانت الأيام معلمهم الأول، والتجربة كليتهم الدائمة.