لا تنتظروا بنودَ الاتفاق.. اقرؤوا ما بين سطور التصريحات!
| فرنسا – فراس عزيز ديب
مع الساعات الأولى لانطلاق الهدنة في سورية، أعلن الجيش العربي السوري عن إسقاط طائرتين معاديتين، إحداهما حربية؛ يبدو الأمر تأكيداً لما قاله الرئيس الأسد يوماً بأن «الإسرائيليين» يعرفون أين ومتى نَرد. أما الكيان الصهيوني، فكان من الطبيعي أن يعلن نفيهُ لهذه الحادثة، هذا الأمر اعتدناه، وإن كان هذه المرة اضطر للاعتراف بأن النيران السورية اعترضت مسار الطائرة الحربية. لكن في الطرفِ الآخر هناكَ من طالبَ القيادة السورية بإثباتِ وقوع هذه الحادثة، يبدو هذا المطلب ساذجاً بعض الشيء، إن كان المُطالِب بذلك هو «بعض» الشارع السوري أو من خارجِ الحدود.
في الإطار العام فإنه في مثل حالات التوتر الواقعة حالياً على الحدود السورية مع فلسطين المحتلة، والتي أَشعلها الكيان الصهيوني بدعمهِ المباشر للجماعات الإرهابية ومن بينها «جبهة النصرة»، فإن الدلائل على تحقيقِ نقاطٍ لطرفٍ على آخر تكون أشبهَ بورقةٍ قويةٍ بيدِ من يمتلكها، لا يمكن له التفريط بها بسهولة. في هذا السياق لنتذكر المفاوضات التي جرت بين الكيان الصهيوني و«حزب اللـه» لتبادل الأسرى بعد عدوان تموز 2006، هل أفصحَ الحزب طوال فترةِ المفاوضات عن مصير الجنود الصهاينة؟ هو فاوضَ وحرَّر كل من تبقى له من أسرى، من دون أن يعرف الطرف الآخر هل إن جنوده أحياءٌ أم قتلى؟
لكن هل عملية الردع تلك والتي تلاها بيانٌ من الخارجية السورية متعلق بعدوان النظام التركي في الشمال السوري، واحتمالية الرد عليه بذاتِ الطريقة هي عمليةٌ مرتبطةٌ أساساً بدافع القوة التي تلقتها القيادة السورية مع بدء تطبيق الاتفاق الروسي الأميركي؟ لأنه فيما يبدو -إن تم تطبيقه- فسيكون حكماً في مصلحتها، أم إن العدوان أساساً تزامناً مع الهدنة هو لمنع تطبيق الاتفاق تحديداً إذا ما انطلقنا من بديهيةِ أن الكيان الصهيوني ليس كباقي حلفاء واشنطن، بما فيهم الرؤوس الحامية في الاتحاد الأوروبي، هو على اطلاعٍ بكاملِ بنود هذا الاتفاق؟!
قبل أمس، وجدت واشنطن طريقاً جديداً للهروب من التزاماتها، فأُلغيَت جلسة لمجلس الأمن التي كان من المقرر أن تعطي الصبغة الأممية ولو من باب الاطِّلاع لما سمي الاتفاق (الروسي- الأميركي). لا أحد يستطيع أن يدعَم ما لا يعلم، وواشنطن لا تريد لأحد أن يعلم، إذاً لماذا هذا الإصرار الأميركي على التكتم، وبمعنى آخر: لماذا لا يقوم الروس بنشر بنود الاتفاق بدلاً من تكرار الدعوة لواشنطن لنشره؟
بما يتعلق بالروس، فبعيداً عن كونهم يحترمون كلمتهم والتزاماتهم بمنع نشر بنود الاتفاق، فإنه يمكننا من خلال تصريحات بعض مسؤوليهم أن نفهم الكثير من البنود التي تدفع الولايات المتحدة إلى منعَ نشره، فعندما تعلن وزارة الدفاع الروسية أن من حق الجيش السوري الرد على انتهاكات المعارضة -أياً كانت مسمياتها- فهذا يعني أن الاتفاق أساساً حفظ للسوريين هذا الأمر، وهو ما لا يُرضي رعاة المعارضات السورية في الخارج. عندما يقول «فيتالي تشوركين» إن جلسة مجلس الأمن أُلغيت لأن الأميركيين يريدون تفسير بعض بنود الاتفاق على هواهم، بعيداً عن مشاركتها مع بقية أعضاء مجلس الأمن، فهذا الأمر قد يبدو مرتبطاً بـ«تفاصيل ومرجعيات» مسار الحل السياسي، الذي يصرّ الروس على أنه شأنٌ سوري، بينما هناك من يريد تأويله حكماً بما يتماشى مع هواه برؤية سورية «دون الأسد»، حتى إن معارضة الرياض هناك من ورطها برفع السقف قبل ساعاتٍ من إعلان التوصل للاتفاق الأميركي الروسي بالقول إنهم «لن يسمحوا ببقاء الأسد ولا ساعة»، وكأنهم يملكون أن يسمحوا أو ألا يسمحوا، وهذا ما يبدو أنه لم يتحقق، فأراد الأميركي تأخير نشره. أما الادعاءات الأميركية المستمرة بأن الروس والسوريين يمنعون دخول المساعدات عبر «الكاستيلو»، والتي أدت لإدلاء مبعوث الولايات المتحدة إلى سورية «ديمستورا» -ربما لم يعد مجدياً تسميته «مبعوث الأمم المتحدة»- بدلوه وتفسير الأمور على هواه باتهام الحكومة السورية بعرقلة العملية، كان قد سبقها كلامٌ روسي عن وجود ثلاث طائرات استطلاع أميركية تحلِّق في سماء حلب. التصريح بدا وكأنه استباقٌ روسي لقطع الطريق عن مثل هكذا أكاذيب، لأن الأميركيين يعرفون تماماً ماذا تحمل المساعدات، ومن الذي يعيق وصولها، لكنها هذه عادتهم بقلب الحقائق. سلسلة التصريحات هذه اختتمها الرئيس الروسي ظهر أمس عندما قال إننا لا نرى فصلاً للمعارضة بل إعادة تجميع للمسلحين، مع العلم أن كلام بوتين جاء بعد تسلُّم الروس لائحة بأسماءِ التنظيمات «المعتدلة» أميركياً، أي إنها رسالةٌ واضحة للأميركيين بأنهم لم ينفذوا حتى الآن أيّاً من التزاماتهم، وعدم اقتناع الروس أساساً باللائحة الأميركية.
أما لماذا لا يريد الأميركيون نشر بنود الاتفاق؟ بعيداً عن مراوغتهم وتذرعهم بالأمور الأمنية تارةً وضمان وصول المساعدات تارةً أخرى، فإن القراءة العادية قد تقودنا لفرضياتٍ عدة منها: إن نشرَ بنود الاتفاق سيُظهر للعالم أن الأميركيين لا يلتزمون بوعودهم، وسيكشف حقيقة من يدعم الإرهاب، وإن الأميركي لا يستطيع أن يمارس نفوذه على كامل الجماعات الإرهابية والدول الداعمة لها. هذا الأمر أثبتته الوقائع الحالية، تحديداً أن «النصرة» الآن في أحياء حلب الشرقية تشترط أن تستلم المساعدات لضمان دخولها، بل هناك اقتتالٌ حصل في بعض المناطق كـ«بستان القصر» بين المسلحين حول أحقية توزيع المساعدات، فلماذا لم تتدخل واشنطن لحله؟
لكن من باب المنطق، متى كانت الولايات المتحدة تهتم لهذه الأمور وتعير اهتماماً لما يقوله الآخرون عنها أو يتهمونها به؟ ألم تدافع علناً عن «النصرة» وهي فرع تنظيم القاعدة في سورية، بل أيضاً طالبت بالحوار معها، إذاً ما الذي يريده الأميركي؟
القضية واضحةٌ، وهي الرغبة الأميركية في المزيد من الاستثمار في الإرهاب والفوضى لا أكثر، وإعادة تشكيل المنطقة حسب مفهومهم يتطلب المزيد من الفوضى التي لن تتوقف، لا بالهدنة في سورية ولا بالاتفاقات ولا بأي شيءٍ آخر، حتى الصعوبات التي يرى البعض أنها تواجهها نتيجة عدم القدرة على الفصل بين التنظيمات الإرهابية والمعارضة المعتدلة هو كلامٌ ليس واقعياً، لأن الولايات المتحدة أساساً لا تملك إرادة الفصل، وهي عندما أرادت ذلك لم توفر حتى «آل سعود» من إشهار سلاح الملاحقة القضائية وجعلهم يعوضون ضحايا اعتداء أيلول 2001. أكثر من ذلك، إن التقديرات المالية لحجم التعويضات المطلوبة ستعني أن «آل سعود» سيدفعون حتى ثمن المياه التي استخدمها عمال النظافة في تنظيف الشوارع بعد الاعتداء، لكن ياتُرى كم من المياه سيحتاجون ليمسحوا الدماء عن أنياب من يدعم الإرهاب ومن يغطيه، ربما الكثير. أما وعود «أوباما» المجانية بمنع استصدار القانون عبر «الفيتو الرئاسي»، فقابلها كلامٌ واضح بأن الكونغرس سيضمن الأغلبية التي ستعطل الفيتو الرئاسي، لكن ماذا ينتظرنا؟
في الإطار العام فإن التزام الجانبين السوري والروسي ببنود الاتفاق وضعَ الأميركي في زاويةٍ أكثر ضيقاً، لكنه للأسف يجيد اللعب حتى في المساحات الضيقة، ولو بالانقلاب كاملاً على بنود الاتفاق، وهو ما سيحدث تحت أي ذريعة، والسعي للفوضى الكاملة في الإقليم لا يزال مستمراً، أي إننا مازلنا في مواجهة تلك الأنياب، لكننا لن نكون ضحية لها، ومن يظن أننا ساذجون لدرجة الثقة بأن الأميركي صادقٌ هو ذاته من يظن بأننا ساذجون لدرجة التفكير بأن تدخل الكيان في دعم إرهابيي الجنوب منفصلٌ عن الرغبة الأميركية في وأد الاتفاق في مهده… ربما هي مسألة أيام لا أكثر.