قضايا وآراء

بين النخب «المذهبية» ونخب «المعتقلات الأميركية»: السوريون أدرى بوطنهم

فرنسا – فراس عزيز ديب : 

 

في العمل الاستخباراتي، عندما تريد أن تصنع جاسوساً أو ذراعاً لك عليك أن تبحث عن شخصٍ «أفَّاق»، بحيث أنه لا يجيد الكذب فحسب، بل يكون قادراً على إقناع الناس بكذبه.
عندما استضافت قناة «آل ثاني» الإرهابي «أبو محمد الجولاني» زعيم تنظيم «النصرة»، قلنا يومها إن أحد أهداف الاستضافة فيما يبدو تلميع صورة الجبهة الإرهابية، من أجل إقحامها في مفاوضات أي حل سياسي قادم كممثلٍ عما يسمونها «المعارضة المسلحة المعتدلة». قبل أيام أكملت غرف العمليات الإعلامية المشبوهة هذا المسار بالكشف عمّا سمته الشخصية الحقيقية للجولاني، بإيراد سيرته الذاتية من دون صورته.
لم يطرح إرهابيو الإعلام سبباً مقنعاً لعدم قيام تنظيم «داعش» بفضح تفاصيل حياة «الجولاني»، تحديداً أن «الجولاني» المنشق عنهم مُرتد ودمه مهدور بعرفهم، إلا إذا كان هناك من يريدنا أن نقتنع بأن سبب عدم قيام «داعش» بذلك هو «احترام الزمالة المهنية».
كذلك الأمر، لم يكن مفاجئاً لنا تلك السيرة «السوبرمانية»، لكن ما لفت النظر أن معدل التفخيم وصل لدرجاتٍ غريبةٍ، تحديداً خلال الحديث بأن والده كان «يشغل منصب سائق» في إحدى شركات القطاع العام.
بالتأكيد نحترم جميع المهن، لكن في التراتبية المنطقية لا يمكن لنا استخدام عبارة «يشغل منصباً» لنتبعها بسائق إلا إن كان هدفنا واضحاً وهو جعل المواطن العربي يتلقى عبارة «يشغل منصباً» ويضعها في ذهنه بأن هذا الشخص في النهاية منحدرٌ من عائلةٍ كانت تشغل منصباً رفيعاً في الدولة، أو أنها قادمة من رحم المجتمع السوري. لكن مالفت النظر هو ورود اسم معتقل «بوكا» وهو السجن ذاته الذي تقول المعلومات إن زعيم «داعش» «أبو بكر البغدادي» كان معتقلاً به، إذاً ألا يُعيدنا هذا التطابق لكلام الرئيس الأسد في أكثر من مناسبةٍ بأن الإرهاب وُلد مع الاحتلال الأميركي للعراق، وبمعنى أدق إن كان الإرهاب حالة متشرذمة قبل الاحتلال الأميركي للعراق، فنستطيع القول إن هذا الاحتلال أسس وشذّب هذا الإرهاب ونظَّمه ليكون ذراعه الطولى.
بالمطلق، إن البدء بتسريب معلومات كهذه له أسبابه التي لا يجب علينا الاستهانة بها، مؤكدٌ أنهم يبحثون عن هدفٍ ما، أيّاً كانت قذارة الهدف، وهذا ما قلناه عندما بثت قناة «آل ثاني» في برنامج «تراشق الأحذية» حلقة التحريض الطائفي الشهيرة التي كان أحد ضيوفها من يدَّعي أنه معارض سوري يحاول الترويج لـ«الجنبلاطية السياسية» في سورية؟ (بالمطلق لا يعنيني من هو الضيف الثاني وأياً كانت ذرائع الدفاع عن سورية، هي ساقطةٌ لمجرد القبول بإكمال أضلاع التحريض).
يومها كان التحريض ليس طائفياً فحسب، لكنه كان تحريضاً هدفه خلق شرخٍ بين الجيش العربي السوري ومكونٍ أساسي من مكونات هذا النسيج. بعد أسابيع قليلة تبدأ الصحافة الصهيونية بالترويج للخوف على مصير مَنْ يدَّعي مقدم البرنامج وضيفه بتمثيلهم، فتندلع المعارك بهدف إسقاط مدينة السويداء، فهل هذا كله محض مصادفة؟ أم إن الأمر بات أعمق من ذلك؟!
أهدر «وليد جنبلاط» يوماً وعبر الإعلام دماء السوريين، أدرك أن لا رادع لتماديه، فقال إن من يقف مع «النظام» ضد «الثورة» دمه مهدور، ولكن ما الفرق بين من يهدر دماء معارضي «الثورة» وبين من دعا الولايات المتحدة لإرسال مفخخات لقلب العاصمة دمشق؟ للأسف يومها بدل أن نستثمر هذا الموت السريري لـ«جنبلاط» وهذا الضياع الذي دفعه لهذا الحد من التخبط أعدنا تقويمه من جديد! وتناسينا أن التسامح مع الحاقد هو صك براءة له.
لكن الفرصة هذه الأيام لم تكن جنبلاطية فحسب للعودة للساحة الإعلامية، بل هناك من بات يستشعر فعلياً أن سورية باتت بحالة ضعفٍ، فبدأ باستعراض مراجله «الطائفية» التي هي في النهاية كاشفة للمعادن ليس أكثر. لم نسمع من بعض الأصوات التي «تتمرجل» هذه الأيام على الشاشات نقداً أو إدانة لما قاله جنبلاط، لماذا يصمتون عندما يأخذهم «وليد جنبلاط» شمالاً ويميناً ويعودون للواجهة فقط للتجارة بالمواقف ودماء السوريين، واللافت أن جميعهم لم يخرج في حديثه عن الطائفية المقيتة، أغلبهم لم يتذكر ما يجري في سورية من جرائم إلا عندما تبدأ عباءته بالاحتراق، بل يتحدث كأنه ناطقٌ باسم الشعب السوري ومكوناته.
ما أشبه قيام البعض في لبنان بادعاء التحدث باسم مكونات الشعب السوري، وهو القادم أساساً من بلدٍ منقسم لإقطاعات ونظامٍ سياسي طائفي، بالدروس التي كان يعطينا إياها «سعود الفيصل» بالديمقراطية.
لم يسألوا أنفسهم من الذي يروج لفكرة التعايش مع المجموعات الإرهابية بدل الوقوف بوجه «الثورة»، ومن ثم خذلهم ليسقطوا ضحايا كما غيرهم من الشعب السوري، لكن هل إن الأمر بهذا التبسيط؟
فُتحت معركة الجنوب السوري باتجاهٍ جديد، بدا واضحاً أن معارك درعا لا يمكن أن تقدم لـ«الإسرائيلي» ما هو جديد، ولا يمكن للمسلحين أن يفعلوا أكثر ما فعلوه؛ أهمها السيطرة على «تل الحارة»، مهما حاول ملك شرقي نهر الأردن أن يكون خادماً مُطيعاً. لكن في النهاية هناك واقع يحتم على الكيان السعي أكثر فأكثر للضغط على القيادة السورية في الجنوب المسيطر عليه والذي يعتبر موالياً لسورية الوطن.
هذا الأمر لا ينفع معه فقط الاعتماد على جبهة «النصرة»، فلا بد من استحضار الفكرة «الجنبلاطية» التي نجحت بخلق حالة تعايش بين سكان بعض القرى في إدلب والعصابات الإرهابية، على أمل أي ينجحوا بضرب السويداء من الداخل. فشلت الفكرة دون أن ننكر انقياد البعض لها، كانت صور أبناء منطقة «الثعلة» وهم داخل المطار يداً بيدٍ مع القوات المدافعة عن المطار كافية لخلق كابوسٍ جديد يجبر المعتدين على إعادة حساباتهم والسبب واضح؛ فالجميع بات تحت ضغط الوقت إن كان أصحاب مشاريع التقسيم أو السيطرة، أو أصحاب مشاريع الكانتونات الطائفية بما فيهم الكيان الصهيوني الذي يبدو حاله اليوم بمحاولة إنجاز ما يمكن إنجازه قبل انتهاء معارك القلمون، لأنه فيما يبدو الوحيد الذي يدرك أهميتها وما سيكون لها من تبعات في حال نجحت ـ وستنجح ـ كحال رجب طيب أردوغان قبل الانتخابات، عندما حاول أن يدعم بحلفه مع مشيخة قطر و«آل سعود» العصابات المسلحة لأقصى حدٍ، فهل هناك من أفرط في التفاؤل في نتائج الانتخابات التركية التي ستتقاطع نتائجها على الأرض بإمكانية إغلاق الحدود مع سورية في وجه الإرهاب؟
إذا انطلقنا من فرضية أن تبحث المعارضة التركية في النهاية عن المصلحة العليا لتركيا- وهذا حقهم- فلا تبدو تركيبة الأحزاب المعارضة أنها ستربط المصلحة العليا لتركيا بمصلحتها في دعم الإرهاب والتطرف وهم الذين نجحوا على حساب انكشاف دعم أردوغان للإرهاب.
كذلك الأمر الفرق بين الحالة الأردوغانية والمعارضة التركية، أن أردوغان قادرٌ بمشروعه أن يجتذب إرهابيي العالم من كل حدبٍ وصوبٍ، وهو ما حدث فعلياً، أما المعارضة فلا تبدو من وجهة النظر العقائدية على الأقل تسعى لذلك. بالتأكيد لا يمكن لنا التعاطي مع نتائج الانتخابات وكأنها سحر ساحر، لكن في النهاية علينا الاعتراف أن هناك مشروعاً أردوغانياً سقط إلى غير رجعة أياً كانت طبيعة الحكومة القادمة، ونحن الآن ربما نجهز لارتدادات ما بعد سقوط المشروع، بدايتها انتهاء معارك القلمون. لكي يعرف المتابع ماذا تعني معارك القلمون وما يتم تحقيقه من تقدمٍ فيها، لينظر فقط لغيابها عن الإعلام المعادي، كذلك الأمر لنقرأ بتمعن ما قاله السيد حسن قبل أيام، هزمنا «النصرة» وبدأت المعركة مع «داعش». بكل تأكيد المعركة مع «داعش» هي الأهم، لأن الحرب على «النصرة» هي بالنهاية حربٌ على تنظيم إرهابي مدعوم وممول خليجياً وتركيّاً برضى أميركي، لكن الحرب على «داعش» هي حرب على الأميركي نفسه بعد أن بات المشروع الداعشي مشروعاً أميركياً محضاً يصل فيه لدرجة الترويج بأن سيطرة «داعش» على سورية والعراق أفضل من تقسيمهما، ألهذه الدرجة وصلنا؟
ربما لأبعد من ذلك، فالمعتقلات العربية والإقطاعات الطائفية أفرزت لنا هذه الطبقة التي يسمونها «المثقفة» أو القائدة، والتي باتت اليوم واجهة إعلامية «أفّاقة» لكل ما يجري في المنطقة من دمارٍ وخرابٍ، أما معتقل «بوكا» الذي كان فيما يبدو أكثر من مجرد معتقل للإرهابيين، ربما كان عبارة عن معهد صغير لتخريج أدوات الإرهاب؛ أدوات قادرة قبل كل شيء أن تقنع الجميع بمشروعها، قبل أن تكون صاحبة مشروع أساساً، فأيهما الأفّاق… من يدّعي الخلافة أم من يصدقه؟!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن