ثقافة وفن

سر مقام سكينة بنت الحسين

| شمس الدين العجلاني

دأب المستعمر الأجنبي على نهب ثرواتنا وتراثنا وتهديم حضارتنا، ولنأخذ مثالاً على ذلك سرقة المخطوطات والكتب النادرة، ففي واحدة من هذه السرقات كان بطلها الإمبراطور الألماني غليوم الثاني والسلطان العثماني عبد الحميد الثاني. حين قام غليوم الثاني بزيارة دمشق والجامع الأموي عام 1898 وطلب من السلطان العثماني الحصول على مقتنيات «قبة الخزنة» الموجودة في صحن الجامع الأموي وكان له ما أراد علماً أن مقتنيات «قبة الخزنة» كانت: (قطعاً من الرقوق كتب فيها سور من القرآن الكريم بالخط الكوفي، ومنها قطعة مهمة من مصاحف وربعات وقطع من الأشعار المقدسة بالآرامية الفلسطينية وكتابات دينية وأدبيات وقصص رهبانية ومزامير عربية بالحرف اليوناني، ومقاطع شعرية لأوميروس وكراريس وأوراق بالقبطية والكرجية والأرمنية وجذاذات عبرانية وسامرية فيها نسخ من التوراة وتقاويم أعياد السامريين، وصكوك للبيع والأوقاف وعهود زواج، كما عثر بينها على مقاطع لاتينية وفرنسية قديمة، وقصائد يرتقي عهدها إلى أيام الصليبيين ونسخة من إنجيل برقوق، وقطعة كوفية مكتوبة على رق من ربعة شريفة وقَفَها عبد المنعم بن أحمد سنة 298هـ وعلى الوجه الثاني نقش مذهّب باسم واقفها) وأخذ منها الشيء الكثير برضى الباب العالي ضارباً كل القيم الثقافية والتراثية لبلادنا.
وكمثال آخر عن سرقة المستعمر لآثارنا، حين أقدم المدعو «لورنس العرب» عام 1918 بسرقة الإكليل البرونزي على ضريح صلاح الدين الأيوبي على مرأى ومسمع من الأمير فيصل بن الحسين! والإكليل لم يزل حتى الآن في متحف الحرب البريطاني؟!
قصص وحكايا سرقات الغرب لبلادنا قد تبدأ ولا تنتهي بدءاً من المستشرقين إلى أيامنا هذه..
وهذه حكاية سرقة لم تتم في مقام السيدة سكينة بنت الحسين..
الزمان: عام 1910م.
المكان: دمشق، مرقد السيدة سكينة بنت الحسين.
اللصوص: جمال باشا السفاح وفون ساندرز.
البطل: سليم مرتضى.
قد أجزم أن هذه الحكاية لا يعرفها الآن إلا عدد قليل من الناس لا يتجاوز عدد أصابع اليد.

سكينة بنت الحسين
هي سكينة بنت الحسين «شهيد كربلاء» بن علي بن أبي طالب ابن عبد المطلب بن هاشم، حفيدة رسول اللـه (ص) وحسب بعض الروايات اسمها الأصلي هو آمنة أو أمينة حسب ما رواه الشيخ عباس القمي في كتابه «نفس المهموم» وأمها السيدة الجليلة الرباب بنت امرئ القيس بن عدي الكلبي. ترعرعت سكينة في المدينة المنورة، ووصفها المؤرخون بأنها كانت سيدة من العقل الوافر والأدب والظرف والسخاء والفضل بمنزلة عظيمة، ذكر المؤرخون حسب ما أورد الحصني في كتابه منتخبات التواريخ لدمشق أنها سيدة الشعراء، وأنها ماتت بدمشق ودفنت في تربة القلندرية داخل القبة. سكينة هي أخت الإمام زين العابدين.. شهدت واقعة الطف وروت أحداثها وكان عمرها 14 عاماً.
السيدة سكينة كانت من جملة النساء اللاتي أخذن سبايا إلى عبيد اللـه بن زياد في الكوفة، ومن بعدها إلى يزيد بن معاوية في الشام؛ وذلك بعد استشهاد والدها الإمام الحسين وأهل بيته.
وروى ابن طاووس في كتاب الملهوف أن سكينة اعتنقت جسد أبيها الإمام الحسين بعد استشهاده، فاجتمع عدة من الأعراب حتى جرّوها عنه، وأُخذت بعد ذلك مع الأسرى والرؤوس إلى يزيد بن معاوية في دمشق، ثم عادت مع أخيها الإمام زين العابدين إلى المدينة.
توفيت سنة 117 هـ/ 735م، وقيل إن الوفاة كانت بمصر، أو الشام، أو الحجاز، وفي «شذرات الذهب» توفيت بالمدينة، وكذلك في «مرآة الزمان» وهذا ما أجمع علية أغلبية المؤرخين ويقولون إن القبر المنسوب إليها بدمشق في مقبرة الباب الصغير هو قبر رمزي أو مقام أو مسجد باسم سكينة.

جمال باشا السفاح
هو أحمد جمال باشا (1873 – 1922)، قائد الجيش الرابع العثماني ووزير للبحرية، عين حاكماً على سورية وبلاد الشام عام 1915 وفرض سلطانه على بلاد الشام وأصبح الحاكم المطلق فيها. وهو من زعماء جمعية الاتحاد والترقي وقاتل البلغار في مقدونيا واشترك في الانقلاب على السلطان عبد الحميد. وشغل منصب وزير الأشغال العامة عام 1913 ثم قائداً للبحرية العثمانية عام 1914. أعدم جمال باشا نخبة من المثقفين العرب من مختلف مدن سورية ولبنان، فقد ساق لهم مختلف التهم التي تتراوح بين التخابر مع الاستخبارات البريطانية والفرنسية للتخلص من الحكم العثماني، إلى العمل على الانفصال عن الدولة العثمانية.
أحال جمال باشا ملفاتهم إلى محكمة عرفية في عاليه في جبل لبنان، حيث أديرت المحاكمة بقسوة وظلم شديدين، ومن دون أن تحقق أدنى معايير المحاكمات العادلة والقانونية، صامّاً أذنيه عن جميع المناشدات والتدخلات التي سعت لإطلاق سراحهم، وخصوصاً تلك التي أطلقها الشريف حسين بن علي شريف مكة، الذي أرسل البرقيات إلى السفاح وإلى السلطان وإلى الصدر الأعظم، وأوفد ابنه الأمير فيصل ابن الحسين إلى دمشق، وقابل السفاح ثلاث مرات في مسعى لإيقاف حكم الإعدام من دون جدوى، إذ إن السفّاح كان قد عقد النية على تنفيذ مخططه الرهيب.
نفذت أحكام الإعدام شنقاً على دفعتين: واحدة في 21 آب 1915 وأخرى في 6 أيار 1916 في كل من ساحة البرج في بيروت، فسميت ساحة الشهداء، وساحة المرجة في دمشق.
ومن كثرة جرائم جمال باشا أطلق علية أهل بلاد الشام «السفاح» فعرف منذ ذلك الوقت بهذا اللقب..
قتل جمال باشا في مدينة تبليسي عام 1922م على يد أرمني يدعى إسطفان زاغكيان بسبب كونه واحداً ممن خططوا لإبادة الأرمن.

فون ساندرز
قام تحالف سياسي عسكري بين الدولة العثمانية والإمبراطورية الألمانية، بموجب اتفاقية سرية وقعت بينهما في 2 آب عام 1914 أدى لدخول الإمبراطورية العثمانية الحرب العالمية الأولى بجانب قوات المحور عبر قصف الموانئ الروسية في البحر الأسود وبالتالي أعلنت فرنسا والمملكة المتحدة الحرب على الدولة العثمانية.
المؤرخ «جولتكين يلديز» التركي يقول إن ما دفع العثمانيين إلى ذلك هو: (للتخلص من العزلة الدبلوماسية وتحصين نفسها أمام أي هجوم يتم من الدول الأخرى، وخاصة الإمبراطورية الروسية، ولكن على النقيض من الهدف المنشود، أودى التحالف العثماني الألماني بحياة الدولة العثمانية إلى الأبد، وشكل السبب الرئيس في القضاء على الدولة العثمانية التي بدأ حكمها السياسي لطيف جغرافي واسع عام 1299).
هذا التحالف جعل للإمبراطورية الألمانية اليد الطولى في الدولة العثمانية، وأرسلت ضباطها وجنرالاتها إلى مركز القوى في الدولة العثمانية، ومنهم فون ساندرز، وهو الجنرال «أوتو ليمان فون ساندرز» الذي وصل عام1913م إلى قيادة الجيش العثماني، وتبوأ أعلى المراكز في القيادة العسكرية العثمانية، فكان قائداً للجيش العثماني الخامس، والمستشار لدى القيادة العليا للجيوش العثمانية. وهو من قام بتنظيم القوات والجيوش العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى.
ولد أوتو ليمان فون ساندرز (Otto Liman von Sanders) عام 1855 لأسرة أرستقراطية في مملكة بروسيا، ودخل الجيش الألماني وتسلسل في الرتب حتى وصل إلى رتبة فريق عام 1913، حيث تم اختياره في حينه رئيساً للبعثة العسكرية الألمانية إلى الدولة العثمانية، خلفاً لمن سبقوه من الضباط الألمان الآخرين مثل (فون مولتك، كولمار فون دير غولتز).

سليم مرتضى
عائلة مرتضى من العائلات الدمشقية العريقة والشريفة، ينتمون إلى العترة الطاهرة، ويقول الحصني، إنهم من الفاطميين السادة الحسينية وإنهم قدموا من اليمن وتوطنوا دمشق وبعلبك.
اشتهر الـمرتضى بتولي الرعاية والاهتمام بمراقد آل البيت في دمشق، وكان منهم في القرن الماضي الشريف سليم مرتضى قائمقام مراقد أهل البيت، الذي كان له الفضل في إحباط سرقة التابوت الأثري للسيدة سكينة، والذي قام عام 1910م بترميم مقام السيدة سكينة.

مرقد سكينة
يقع مرقد السيدة سكينة في منتصف شارع آل البيت الذي يخترق مقبرة باب الصغير بدمشق، وهو عبارة عن مسجد ومزار، داخلة ضريح رمزي حوله قفص فضي مذهب حديث على غرار الأقفاص الموجودة على قبور السيدة زينب والسيدة رقية وبعض المزارات الأخرى. أما القبر الأصلي فيقع في طابق تحت الأرض يُنزل إليه بدرج، ويتألف من غرفتين صغيرتين جداً بينهما ممرّ صغير، ويتوسط الضريح إحدى هاتين الغرفتين. وعلى القبر المنسوب إلى سكينة صندوق خشبي قديم، طوله ثلاثة أمتار وعرضه متر ونصف المتر وارتفاعه متر، مزخرف بنقوش وكتابات كوفية مشجّرة، يرى عبد القادر الريحاوي أن أسلوب الكتابة والزخارف يدلّ على أنه من العهد السلجوقي، أي القرن السادس الهجري / الثاني عشر الميلادي. على حين يقول الحصني: (وجد عليها تابوت قديم من الخشب، منقوش ومحفور عليه في الخط الكوفي يشير باسمها، طوله ثلاثة أمتار وعرضه متر ونصف المتر وارتفاعه متر، صنع في زمن العباسيين).
ويذكر أن هذا التابوت الأثري اكتشف في عام 1910م حين قام سليم مرتضى بترميم مرقد السيدة سكينة وأثناء أعمال الترميم والحفريات عثر على تابوت من خشب الأرز، مزخرف بالنقوش العربية والآيات القرآنية بالخط الكوفي، وقيل حينها في هذا التابوت كانت ترقد السيدة سكينة.

سرقة لم تتم في مقام السيدة سكينة بنت الحسين
حين أعلنت الحرب العالمية الأولى، حضر إلى دمشق الجنرال الألماني «فون ساندرز» لمساعدة العثمانيين في الحرب، وعرف من أحاديث أهل دمشق خبر التابوت الأثري الذي اكتشف في مقام السيدة سكينة، فقام بزيارة المرقد وتفحص التابوت، فبهر به، وعاد إلى جمال باشا السفاح وطلب منه الحصول على التابوت لترحيله إلى ألمانيا!؟
لم يكن الأمر صعباً على السفاح، خاصة أن الأحكام العرفية كانت مطبقة، والمشانق كانت قائمة في ساحة المرجة..
طلب السفاح من قائمقام مرقد سكينة سليم مرتضى، بوجود «فون ساندرز» تسليم التابوت «فارغاً» للدولة العثمانية لأنه من الآثار العامة.. حار مرتضى ماذا يفعل؟ إن سلم التابوت الأثري فتلك مصيبة، وإن لم يسلمه فتلك مصيبة أكبر قد تؤدي به إلى حبل المشنقة… وهنا طلب مرتضى إعطاءه مهلة أسبوعين لكي يستطيع تدبر الأمر وفك التابوت وإخراجه سراً لكيلا يثير أي ضجة… وافق السفاح وساندرز على ذلك.. ولم يمض الأسبوعان حتى كان سليم مرتضى قد قدم لهما التابوت وقد فكه قطعة قطعة وغلفها بالقطن والقماش ووضعها في صناديق صنعت خصيصاً لهذا الغرض، وابتسم السارقان السفاحان لأنهما حصلا على التابوت هذا الكنز الأثري… وبقي مرتضى لأيام في حالة قلق لم ينم الليل خوفاً من انكشاف أمره! أما الجنرال الألماني «فون ساندرز» فقد قام مباشرة بترحيل صناديق التابوت إلى ألمانيا، ولم يعرف بعد ذلك أي شيء عن هذا التابوت الذي رحل إلى ألمانيا!؟

ما سر سليم مرتضى؟
لم يكن في نية مرتضى تسليم تابوت السيدة سكينة بأي حال من الأحوال لسارقي آثارنا وحضارتنا، لمعرفته التامة بأهميته الدينية والتاريخية.. فحين طلب مهلة أسبوعين لتسليمهما التابوت، قصد مهرة دمشق من النجارين والمزخرفين لصنع نسخة طبق الأصل عن هذا التابوت، فعملوا ليلاً ونهاراً لتنفيذ رغبة مرتضى، وخرجت من بين أيديهم نسخة طبق الأصل عن التابوت الأثري، من حيث نوع الخشب العتيق والزخرفة والكسور التي على جنباته… وأخفيت النسخة الأصلية وسلمت النسخة المقلدة وانطلت الحيلة على اللصين…
وبعد أن رحل العثمانيون والألمان عن بلادنا، أُخرج التابوت الأصلي من مخبئه وأعيد إلى مكانه، ولم يزل إلى يومنا هذا موجوداً ويزار.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن