ثقافة وفن

القراءة… الترفيه …وكتابة الهلوسات

| أحمد محمد السح

تقولُ الحكايةُ إن الإنسان خطَّ رسوماته على جدران الكهوف – مساكنه الأولى، ويقولُ تحليلُ الحكايةِ إن الإنسان كان يطردُ خوفهُ بتخليدِ تصوّراتِهِ وأفكاره… فكان الحرفُ وكانتِ الكلمة. ثُمت تنامتِ الأفكار وتلاقحتِ الثقافات حتى وصلنا إلى زمن الفكرةِ الطائرة التي تحتل كل مكان، تعيش هذه الفكرة بيننا بين قراءاتنا ولوحات إعلاننا الطرقية، في التلفاز وعبر الإنترنت، تطير لتحط وتأخذ أي لباس، ربما تكون عابرة للزمان والمكان بطيرانها وتواترها. وهذا التنوع في التعبير عن الفكرة والسهولة والانتشار جعلت أدوات الوصول إلى المعرفة متعددة، ولكنه هذه الأدوات لم تلغِ التأكيد يوماً على أن القراءة هي الضرورة التي تزيد تنامي الإدراك عند الإنسان وتساهم في تنشيط معارفه ومعتقداته. ولكن هذه السهولة في انتشار الأفكار وبساطة الحصول على المعلومة لأي قاصد، لم تمنعا حصول انحرافات جادت بها اعوجاجات الظروف الإنسانية والسيلان الاقتصادي الاستهلاكي، والاستمرار في حالة الاستغلال لإلباس الفكرة اللباس لتكون نهجاً مختلفاً يبتعد عن القيم الإنسانية ويذهب بها تجاه تحقيق المكسب المادي البحت، والربح السريع. وهو ما خلق عزلة حقيقية بين مريدي القراءة وبين أمهات الكتب تلك التي كانت المنابع الأولى للفكر الإنساني وكانت الشرانق التي نُسِجَ من حريرها بيارقُ لمدارس فكرٍ إنسانية خلقت موازين العقل الجمعي البشري وتطوراته.
ما حملتهُ قفزاتُ الأيام التكنولوجية وسرعة انتشار الأفكار أيضاً هو الاختزالُ والاستغناءُ عن منابع الفكر هذه واللجوء إلى مشاربَ تُعتبرُ بناتِ «موضة» أيامها، لتحمل أفكاراً استعراضية ومبتذلة، وربما مجتزأة، تائهةٌ ومرتجفة غير ذات جذر أو أساس، فتبدو كأنها مجهولة النسب، وبأفضل الأحوال لصيقةً فيه. فلو راقبنا الصور الإلكترونية المنتشرة أو حتى التي تعرض على أبواب المحالِّ التجارية هذه الأيام لوجدناها لا تستطيع منافسة الصور التي كانت تتصدر دكان الحارة التي عشنا فيها، حين كانت تتحدث عن الدَّينِ ومساوئه، وربما كنا نرى شعراً فيه تزكيةٌ للعدل والأخلاق، ولكن حتى هذه الصور البسيطة كانت العبارةُ تنسبُ فيها لقائلها، فهي تشير إلى أحد الأئمة أو الفقهاء كالإمام جعفر الصادق، أو الإمام الشافعي، أو الأحاديث النبوية أو ربما مقاطع من الإنجيل أو القرآن أو القديسين والرسل، هذا كله جعل الانطباع المعرفي للصورة مرتبطاً بجذر تتحدّر منه المنطقة التي نعيش فيها ويتحدّر هو منها. فكم من الكتابات وربما الكتب تصلُ إلى المتلقي اليوم منكرةً أصلها، فلا يعرفُ المتلقي إن جاءته من الفلسفة اليونانية أو الشرائع الرومانية أو التراث العربي أو الكتب الدينية أو أنها تنتسب لناقلها فهو من خطّها وابتدعها. ولربما نتعرض يومياً إلى قصفٍ مركّزٍ من خلال الميديا باستخدام صورٍ أو عبارات تختزل مفهوم كل شيء، كالحب والفلسفة والمنطق والشعر والثقافة، لتكون وجبات سريعة Fast Food على الطريقة الغربية، تجعل متناقليها، ومعتلفيها، ظانين خطأً أنهم وصلوا غاية المنى وقرؤوا الأصل والأساس لينتقلوا بعدها إلى حالة الاجترار الهش لما قرؤوه، ليعيدوه مكتوباً عبر هلوساتٍ متنامية تنتشر فطرياتٍ لا تعرف ضوء الشمس لأنها نبتت في العتمة لتحيا في الافتراض، نحن نرى يومياً صوراً فيها عبارات مرفقةٌ بكمٍّ من الألوان والحسناوات وربما بدع الطبيعة أو الفوتوشوب تكزّ حول فكرةٍ تحتاج إلى نقاش وبحثٍ وتدليل وليس دورها سوى أن تكون مفتاحاً لتعرف حولها أكثر، لكي لا تكون مجرّد شعارٍ واهٍ، ونحن اليوم نرى تهاوي الشعارات. فكم من عبارات العشق الإلهي تصل إلينا من هنا وهناك، من دون أن يكلّف أحدهم نفسه باستخدامها بوابات لقراءات أعمق في كأسِ أبي نواس وجلال الدين الرومي والحلاج والمكزون السنجاري، وابن عربي وغيرهم كثيرون. فما هذه العبارات التي تتربع لتكون شعار لحظتكَ أو يومكَ أو ربما حياتك إلا وتفتح الباب أو النافذة لسيلٍ من الأفكار يقبل الأخذ والرد والنقاش والبحث والتحليل في أساس المنبتِ الذي تنامت ونبتت فيه هذه الفكرة، لتكون الخطوة الأولى على الدرب التي تريد أن تسيرها، وليست علبة كبريت مغلقة إنما هي الشرارة لتمشي على هذا الدرب، فليس كافياً أن تعرف شكل الدرب… بل المطلوب أن تمشي على الدرب، وتتعبَ في عثراتهِ ومصاعبهِ، وتكون مدركاً أين توصلُكَ خطواتك عبره.. وما القصد من هذا السير، لتكون محدداً شكل الوجه التي يريد الإنسان السير عليها ليوجه عمره حيث تكون القيم الإنسانية النبيلة التي تسمو بروحه، وإلا فإن القراءة ليست سوى ترف وتكريس استهلاكي جديد لهذا العبث المترامي في زمن الاستهلاك.. وتكون من حيث لا تدري طاعناً جديداً في جسد القراءةِ الحقة، التي كانت وتبقى منجاة عند حدوث فيضانات الفكر الكارثية عند الشعوب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن